بعد طقطقة وضرب متكرر للدرابزين الخارجي الصدئ، خرج رأس الطفلة الذي احتجز لربع ساعة. لم يخطر ببال أحد أن الدرابزين الخارجي جزء من البيت، وأن طقطقته وضربه تؤذي ويشعر بها البيت كما لو كانت طقطقة لإحدى جدرانه الداخلية. لم يكن رأسها الوحيد الذي علق تلك السنة، بل يصل عدد الرؤوس إلى خمسة، خمسة أطفال أرادوا تحدي المنزل، اختبار مدى رشاقة أطرافه ومدى احتمالها. ومع أن البيت أثبت لهم انسيابيته بعدم حاجتهم إلى استدعاء الدفاع المدني، فتغيير زاوية الشد كفيلة بإخراج الرأس بين الفتحات، إلا أن الأطفال بمجرد وقوفهم أمام الباب الخارجي منتظرين المنقذ الذي سيفرج لهم دقيقتين من الانتظار، يضعون رؤوسهم في الدرابزين، معلنين التحدي للجميع، إما أن يثبت البيت نحافته وتحملّه للزوار الجدد، أو أن يتم التضحية بإحدى أطرافه الرئيسية، التي إن تغاضى عن وضعها، لأصبح حديث الحي بعدم قدرته على مواكبة حاجات الزوار من كبار السن، ولا ينم ذلك إلا عن قلة أدب وغرور كبيرين، تتضح عن طريق تخليه عن وضع الدرابزين الخارجي والمزلقة التي لن يحتاجها أي من كبار السن، كونهم يرفضون الاستسلام للكرسي المتحرك، ولن تكون المزلقة سوى إضافة أشبه بارتداء النظارات الشمسية تحت ظلال الشجرة التي تتوسط المنزل وتحجب أشعة الشمس عن الفناء كاملًا. ومع ذلك، فإن التحدي بين البيوت والأطفال لم يتوقف عند الدرابزين الخارجي فقط، وإنما الداخلي أيضًا. يتناوب الأطفال على وضع أطرافهم كلها هذه المرة، يتم الاختبار بإدخال اليد كاملة حتى المرفق، وبعدها القدم كاملة حتى الفخذ، وما إن تتم العمليات بسلام، وبعد أن يتنهد البيت من الارتياح كونه سيحافظ على فقرات عموده الفقري كاملًا من الفقدان، يضع الطفل رأسه، مراهنًا بذلك بحياته كاملة. يهرع الجميع لمساعدته، يلوم الأب زوجته على إهمالها، وتلوم الأم ابنها على مدى غباءه، إلا أنهم جميعًا لا يفكرون بأنه اختبار وتحدي بين الطفل والبيت، تحدي إما أن يفوز البيت فيه بسمعة جيدة وبدرابزين هيّن يدخل الأطفال بين فقراته ويتسلقون عليه متخيلين أنفسهم بذات الفيلم مع طرزان، أو أن تستأصل إحدى فقراته وتستبدل بما يسد على الأطفال محاولاتهم لاكتشاف قدرات البيت.

لم يشعر البيت أبدًا بالغضب الشديد كما شعر به ذلك اليوم، اليوم الذي أعلن به سكّان المنزل عن حاجتهم لنخلة تتوسط الفناء. توديع الخصوصية هو ما يعنيه تواجد نخلة بالفناء، فزوارها لا ينقطعون عن الخروج إليها، ومحاولة تسليتها والاعتناء بثمارها والاستظلال بظلالها، وبذلك خصوصية المنزل بقضاء وقت هادئ يعد فيه مساميره التي تحتاج إلى إعادة طرق قد تمت سرقتها. بالإضافة إلى أن تواجد مخلوق حي آخر إلى جانب الدجاج وأعشاشها المكونة من براميل الطلاء يقلل من المساحة التي يستطيع بها المنزل رؤية السماء كاملة، لم تكن الرؤية من البداية واضحة بسبب بيت الجيران الملاصق، لكنها الآن أسوء بالنخلة وسعفها الطويل الذي يتوسط مجال الرؤية. ولم تكن النخلة كافية أبدًا، فكأنما انقطعت المسبحة، وحبات الخرز تستمر بالسقوط. تبعت نخلة السكري شجرة عبري عملاقة، تخبئ العصافير المزعجة فيها، وتؤوي عائلة كاملة من الفئران التي تتخذ حوض الشجرة كمأدبة يومية من الثمار التي تسقطها العصافير. وإلى جانبها تقع شجرة الحناء التي لم يفهم البيت لما تستمر بالنمو بالرغم من تقطيع سكّان المنزل لأوراقها وسيقانها. ولو كان هو بمكانها، ولو أخذ سكّان المنزل أحد أجزاءه، لما استطاع إلى العودة إلى كما كان سابقًا. سيستمر بتهريب المياه، وسيحاول تقشير طلاء جدرانه، وسيجعل من الأرضية الخارجية ساحة من اللهيب، لا تستطيع تبريدها أي نسمة باردة صيفية. وكآخر شجرة تسد على البيت الرؤية بالكامل، شجرة ليمون مريضة. لا يعلم البيت سببًا لمرضها، ويفكر إن كانت تلك وسيلة اعتراض كما يفعل هو أحيانًا حينما يفصل الكهرباء عن كل الغرف. إلا أن شجرة الليمون بفعلها هذا أخذت وقتًا طويًلا، فهي بوضعها هذا لم تمت تمامًا، وليست حية تعطي ثمارًا. تنبت لها ورقتين أو ثلاث، يبتهج الجميع كونها عادت للحياة وينتظرون الليمون على أحر من الجمر، وبعد أيام قليلة تسقط تلك الأوراق، ويحاول الجميع معرفة السبب لذلك. وبين مؤيد ومعارض على اقتلاعها أو تسميدها، تعيش يوميًا تلك الليمونة على أمل ورقتين تشفعان لها بالحياة ليوم آخر.

لا يعتبر البيت نفسه خبيرًا بالتأثيث والتنسيق، إلا أنه على أقل تقدير يعلم يقينًا أن أشجار الزينة البلاستيكية قبيحة، وما يزيدها قبحًا تلك التي ملأ الفلين أحواضها. يضعونها في كل زاوية من زواياه، حتى في استراحة السلم المؤدي للسطح، السطح الذي لا يصعد له إلا موظف محل الكهرباء. يقوم بتصليح مستقبلات البث، التي بحركة واحدة وبشد للسلك تعود للعمل مجددًا. وهو نفسه الموظف الذي يقوم بتصليح الحمامات وتسليك المجاري المسدودة، وتكمن أهم مواهبه أنه شديد البراعة بتعليق اللوحات وتثبيت الرفوف، ولا يقول: لا أبدًا. وبالحديث عن الأحواض والفلين، كانت تلك الأحواض سببًا لحالة استنفار عاشها البيت، بعد تلك الحادثة أعلن البيت كرهه الأبدي لأشجار الزينة وغيّر من نظرته للإنجاب. في تلك الحادثة غير القابلة للنسيان، والتي تركت علاماتها على كل درجة من درجات السلّم، اختفى طفلان، وعاش سكّان المنزل حالة من الاستنفار للبحث عنهما، فالباب الخارجي دائمًا مفتوح، وطفلان في الرابعة لن يفوتا فرصتهما للهرب. بحث الجميع عنهم في كل مكان، تحت الطاولات وخلف الكنبات، في دواليب المطبخ وغرفة العاملات. وبعد ساعة كاملة من البحث والنداءات المتواصلة، اكتشفوا أن الباب المؤدي لسطح المنزل مفتوح، والشجرة الصناعية التي تسبق ذلك الباب قد خسرت جزءًا كبيرًا من فلينها. بتتبع الفلين الذين سقطت أجزاءه على الأرض، وجدوا باب المخزن العلوي الذي يقع في السطح مفتوحًا، ووجدوا الطفلان بأذان وأنوف محشوة بالفلين الأبيض، يتنفسون من خلال أفواههم بسبب الإنسداد الذي يمنع استنشاق الهواء. أخذ الأطفال للمستشفى، وسحبت أشجار الزينة الثقيلة من على درجات السلم، التي وضعت آثارًا عميقة على كل درجة، مشيرة إلى حادثة عصية النسيان للبيت. يستطيع البيت أن يعد على بلاطه المشاعر التي شعر فيها منذ بناءه، مشاعر الغضب التي شعر بها في الوقت الذي أرادوا ترميمه فيه، لأنه لم يشعر قط بالنقص، أو أنه قصّر في توفير الراحة والحب لقاطنيه، إلا أنهم مع ذلك قرروا تكسير جدرانه وتكبير مطبخه وإضافة ملحق يضيّق عليه فناءه. ومشاعر السعادة التي يشعر فيها في كل مرة يستيقظ أهله ويقررون بدء عملية تنظيف شاملة. ومشاعر الحزن التي اجتاحته في الفترة التي قرر فيها الجميع وضع حاجز يفصل بين سكان الطابق العلوي والطابق السفلي، رغبة بالخصوصية التي حتى مع تقسيمه لم تتحقق بالكامل. إلا أن مشاعر الغيرة كانت جديدة عليه تمامًا، لم يشعر بها من قبل. مشاعر غريبة أراد بها أن يقطع الكهرباء عن الغرف لشهر كامل، وأن يتوقف عن العزل ويسمح لحرارة الصيف أن تقضي على الجميع في الداخل. بدأته هذه الحالة بتعليق تلك اللوحة المشؤومة، لوحة مرسومة بألوان فاتحة، بيت قديم طيني، يتكون من ثلاث غرف سفلية ونصف غرفة علوية، تتوقف أمام بابه سيارة جمس سماوية قديمة، وبجانبها نخلة فقيرة التمر. وفي كل مرة يتوقف بها شخص أمام اللوحة تعتلي الابتسامة وجهه، يحّن، يمد أصابعه ليلمس ماضيه من خلال اللوحة، ولا ينفك عن قول:” يا زين بيوتنا أول”. تلك اللوحة كانت سببًا ليكتشف البيت العديد من المشاعر، الغيرة والكبرياء والحقد، أراد أن يستسلم عن إمساك المروحة بالسقف، وأن يتركها تسقط بعد أن تسرع في دورانها. وبعد أوقات كثيرة قضاها البيت بطرق للانتقام، سقطت تلك اللوحة وانكسر إطارها بفعل كرة قدم جلدية، مباراة حاسمة أقيمت في الصالة، تكسرت على إثرها مزهريتين وسقطت بسببها اللوحة، ومع أن البيت يكره اللعب في الصالة ويود أن يحرّمه، إلا أنه في هذه المرة كان شديد الامتنان له، واستحبه لسنة كاملة. وبذلك وضعت اللوحة في المخزن العلوي، بجانب أشجار الزينة الصناعية، تنتظر كل قطعة أن يتم إصلاحها، وهو ما لن يحدث أبدًا، فالذي يدخل المخزن لا يمكنه الخروج منه للأبد.

اقرأ المزيد

خيال الشرهان ومجازه: “خل البعارين تمشي”

قبل عقدين من الزمان.. كنت أرافق والدي -رحمه الله- في طريقنا إلى مزرعته المجاورة لمدينة الرياض، ولم تكن من عادته أن...

اقرأ المزيد

أن تكون صحفيًـــا للسينمـــا

كانت أغرب سيرة ذاتية كتبتها في حياتي، كتبت برنامجي اليومي، وقراءاتي اليومية، وما أتابعه ومالا أتابعه، والكتّاب الذين أقرأ لهم والذين أخطط للقراءة لهم، حتى أنني أشرت للحفلات الغنائية التي أحضرها، وأرفقت بعض التدوينات البسيطة...

اقرأ المزيد

دولاب القراشيع اللانهائي ∞

على يمين باب المطبخ، في الجزء الأول من دولاب المطبخ الرمادي، يقع دولاب “الحوسة” كما تسميه والدتي. فلا يوجد تصنيف خاص به، كونه يحتوي على كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته؛ كوننا لا نجد...

اقرأ المزيد