قبل عقدين من الزمان… كنت أرافق والدي -رحمه الله- في طريقنا إلى مزرعته المجاورة لمدينة الرياض، ولم تكن من عادته أن ينصت كثيراً للإذاعة التي “تشوش” ما إن تخرج من حدود المدينة، ولا يستمع للأغاني، ولم تكن الشيلات بُعثت في جزيرة العرب آنذاك، وفجأة في أحد الأيام تسلل صوتٌ شعبيٌ من شريط كاسيت ألقمه والدي في فم المسجل، يسرد القصص تلو القصص لا يفصلها إلا صوت ربابة خجولة لا تزيد عن خمس ثوانٍ حتى يدلف في قصة أخرى بأقصر مقدمة شهدتها البرامج تلك الأيام: «مساكم الله بالخير، قصتنا اليوم عن…»، مقدمة سنابية بامتياز!


أثارني هذا الصوت الهادئ الذي يسرد القصص، ثم يعقبها بقصيدة تشرح هذه القصص أو الأحداث التي ذكرها ملحناً بعضها تلحيناً شعبياً رقيقاً هادئاً، ويستطيع أن يمسك بزمام المستمعين حينما يدلف في تفاصيل دقيقة بقوله «هذي ترى لها سنع في السالفة»! أي هذه التفصيلة ستكون حاضرة في القصيدة بشكل واضح.

 

لم نكن نعرف اسم هذا الراوي، بل الشريط الذي نشتريه من محطات الوقود في الخطوط السريعة كانت تحمل عنوان (مع الراوي) وبعد انتشار حلقاته التي كان يسجلها في قناة قطر أصبحت هذه الأشرطة تحمل اسم (مع الشرهان). وكُشف عن اسم هذا الراوي (محمد الشرهان) وتربع على عرش الرواية الشعرية لسنوات بلا منافسة، ولا يكاد مهرجان شعبي في مناطق المملكة المختلفة أن يقام إلا وكان الشرهان حاضراً فيه، وعلى الرغم من ظهور العشرات من رواة الشعر والقصص التاريخية، وعلى ما حظي بعضهم من شهرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي – عدا اسمين سنتحدث عنهما لاحقاً – كان لافتا أن يحافظ الشرهان على مكانته وحضوره الاجتماعي، وبلا شك كان ذلك مثار تساؤل كبير جداً بالنسبة لي.

 

لم تكن القصص حصرية له، بل إن بعضها لم يكن أول من ألقاها، وأتى من الجيل الجديد من ألقى نفس القصة وبذات التفاصيل، كقصيدة الاستغاثة لمحسن الهزاني مثلاً، لكن ثمة شيئاً ساحراً يجذبك للاستماع إلى القصة بصوت الشرهان وبتشويش التسجيلات القديمة. وبعد طول استماع ومقارنة مع الرواة الآخرين، أدركت أن لدى الشرهان ميزة تفرقه عن الآخرين، وهي الوصف.

 

الوصف لدى الشرهان يأتي بقالب مختلف جداً. فهو حينما يصف شيئاً قديماً مثلاً ويقرّبه لشيء في العصر الحديث لا ينقله هكذا ببساطة، بل يصبغه بوصف مضحك وفكاهي، أو يجعله تشبيهاً بارعاً يعشعش في زوايا مخك لا يمكنك أن تفارقه إلا بعد أن ينتزع ضحكتك.

الشرهان لا يملك صوتاً طربياً مشوقاً مثل بندر بن عوير! أو لغة جسد مشوقة كمدربي إطلاق العملاق، أو يستعين بشروحات وأدوات توضيحية كأحمد الشقيري! هو يسرد القصة بنبرة صوتية شبه ثابتة، يركز على التفاصيل التي يريدك أن تركز عليها، ثم بذكاء فطري بارع يزرع قنابله المضحكة في ثنايا القصة لئلا يفقد تشويقك لها، ثم يثبتها بتشبيهات تمسك القصة والقصيدة في قاطرة طويلة لا تنفك أبداً.


فمثلاً، حينما يروي قصة مجموعة تناولت العشاء في مطعم فاخر، يشرح غلاء الأسعار بتشبيهه إجمالي الفاتورة وكأنه رقم هاتف! أي أن الأرقام في خانة الآلاف أو أكثر، وتارة يشبه شدة تيّبس ثوب أحد العمّال؛ بسبب امتلائه بالعرق والماء، فلو خلعه فإنه سيقف مثل كرتون الثلاجة! وهذا التشبيه الممزوج بلذعة مبالغة غير متوقعة تجعل المشاهد يتفاجأ بها، وأذكر أن أحد المذيعين لم يستطع أن «يبلع» واحدة من التشبيهات فسأل الشرهان بجدّية: صدق؟! فيتمتم الشرهان بعبارة «خل البعارين تمشي» وهو تعبير يشير إلى عدم التدقيق في القصص و: «أمرّوها كما جاءت».


اللقطة السينمائية في تشبيهات الشرهان بارعة بشكل لا يمكن تخيله في أي مشهد آخر، فمرة يصف عنزة عابرة فيتحدث عن: أذانيها التي تشبه «الشراريب المكواة»، فالتشبيه الأول أن الأذن الطويلة تشبه الجوارب، ثم تخيّل هذه الجوارب مكوية!، ثم يصف عنزة أخرى شهباء فلا يقول أنها منزوعة الجلد، بل يعبّر عنها «كأن جلدها مغطوط في نير»، أي كأنها غمست في كريم لإزالة الشعر! ويتحدث مجدداً عن بربري ليس له شعر بأنك لا تستطيع الإمساك به إلا إذا وضعت في يدك غراء! ومرة يتحدث عن باب بيت صغير يضطر المرء لفتحه أن ينحني للأمام وكأنه يفتح باب تجوري! «أي خزنة»، ويشبّه نقر ديك باحثاً عن الحب كأنه شخص يتعلم على الآلة الكاتبة، ويريد أن يقرّب لك خمار امرأة شفاف يشف عن وجهها بقوله «كأنها تضليلة جمس تشوف الي وراها شوي»، وعن حمرة خد طفل ابيض فيعبر عنها «مفرّكين وجهه بليفه»، ثم في حديثه عن اللؤلؤ وكيف ينزل الغواص لقعر البحر فهو يصف الخطوات جميعها حتى يتحدث عن ربط قدمه بحجر ليثقل وزنه، وينزل أكثر فيقول بتشبيه عابر «ينزل كأنه في أصنصير»، فهذا التشبيه يوصل لك مشهد الغوص وكأنه في هدوء وتؤدة عجيبة! ثم يشبه طريقة مسكة البنت لطرف ثوبها وكأنها تمسك بنملة! فهو حينما يتحدث عن مشهد في قصته فإنما يتعمد بأوصافه أن يعيشك في أجواء القصة بهذه التشبيهات وتتخيلها أمامك.


لا يكتفي الشرهان بإبداع التشبيه، بل في المبالغة التي قد تكون غير طبيعية! مثلاً حينما يصف جودة صف سيارة فإنه يقول «كل من شاف تلبيقة السيارة قال هالجدار ما انبنى إلا عقب»، ومرة يصف حرارة الفلفل في الأكل بأن الأيدي ترجف وليست الألسن فقط! ومرة يصف خروفاً نجدياً سميناً بأنه مثل: «ونيت محمل اسمنت يالله يمشي»، ثم يصف جمال بنت وبياضها بأنك لا تستطيع النظر إليها أكثر من ثلاث ثوانِ، كأنك تنظر إلى لحّام (من يلحم الحديد)، ويصف الوسادة الهوائية التي تستخدم في الإنقاذ لمن هم في الأدوار العليا بأنها تبدو بحجم البيز (القطعة القماشية التي تمسك بالأشياء الساخنة) دلالة على الارتفاع الشديد للمكان.


ولا يفوّت الشرهان أن ينجو من المحاذير والفخاخ الاجتماعية، فهو تجنباً من الاتهام بالعنصرية فإنه يصف شخصاً أسود اللون بـ «كأنه جذع نخلة مشبوب فيه» كناية على السواد، ثم يعرض عن تشبيه جسم امرأة ممتلئة الأرداف بقوله «كأنه زير مقلوب».


الحديث يطول جداً في التطرق لتشبيهات الشرهان، ولذلك أجد من أكثر الأسباب التي جعلت شخصيات مثل: نايف حمدان، أو أسامة الراشد، تحظيان بشهرة أكبر من غيرهما في مجال الرواية أو القصص الشعبية والسواليف لتشابههما مع الشرهان في أسلوب الوصف والمبالغة أحياناً في السرد القصصي. والزيادة بما لا يضر بسياق الحديث ومغزى الموضوع بما يجعل المتابعين متشوقين لإكمال متابعة القصص دون تجاوزها لمشاهير آخرين.


ولا يمكن إغفال التاريخ العربي الممتلئ بالتشبيهات في قصائد الشعراء من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث. سواء من تشبيهات إيجابية في سياق المدح، أو سلبية في سياق الهجاء، أو وصف للجمال في سياق الغزل أو الحديث عن الطبيعة. وإن كنت أرى في أسلوب الشرهان مشابهاً بطريقة أو بأخرى مع ابن الرومي. فحينما كان الشرهان يصف امرأة تصنع القرصان وبراعتها في ذلك أنها تشبه الباغة (الكيس البلاستيكي) وذلك في قدرتك أن ترى ما ورائها! فإن ابن الرومي كان يصف خبازاً وقدرته في تحويل كرة العجين في لحظة إلى رقاقة كبيرة كالقمر مثل لحظة سقوط صخرة في الماء فتكبر الدوائر الناتجة عن ذلك:

ما أنسَ لا أنسَ خبازاً مررتُ به *** يدحو الرقاقةَ وشكَ اللمح بالبصرِ
ما بين رؤيتها في كفه كرةً *** وبين رؤيتها قوراءَ كالقمر
إلا بمقدارِ ما تنداح دائرةٌ *** في صفحة الماء يرمَى فيه بالحجر

وحينما كان ابن الرومي يصف بخل أحدهم بقوله: (فلو يستطيع لتقتيرهِ *** تنفس من منخر واحد)، فقد كان ابن شرهان يصف بخل أحدهم بأن النمل تحت (تانكي) السمن ميت لأنه لا يسرف بقطرة زيت واحدة! والحديث عن الوصف كثير في الشعر العربي، ولكن تظل الصورة السينمائية في الوصف براعة لا يجيدها الكثير. ولا يرويها الكثير!

اقرأ المزيد

الحنين؛ بين الحرف والموقف

كلمة أُخرى، يصعب تفسيرها، تضاف لقاموس اللامعنى وتكون غصنًا لشجرته، وكغيرها مفردة نادرة، تُفسر بالذكرى وجمع الذكريات، تفسر بالموقف الصادر اللاإرادي...

اقرأ المزيد

أن تكون صحفيًـــا للسينمـــا

كانت أغرب سيرة ذاتية كتبتها في حياتي، كتبت برنامجي اليومي، وقراءاتي اليومية، وما أتابعه ومالا أتابعه، والكتّاب الذين أقرأ لهم والذين أخطط للقراءة لهم، حتى أنني أشرت للحفلات الغنائية التي أحضرها، وأرفقت بعض التدوينات البسيطة...

اقرأ المزيد

فــــي أن تــــكون كــــالهواء

“لا يوجد شيء اسمه حياة عادية. سواء كانت حياتك رائعة أو تافهة، كل شخص فريد من نوعه.”   أمقت اقتباسات تطوير الذات، أو بالأصح حب الذات. الاقتباسات التي تمجد الكسل كطريقة لتقدير الذات، الاقتباسات التي...

اقرأ المزيد