على يمين باب المطبخ، في الجزء الأول من دولاب المطبخ الرمادي، يقع دولاب “الحوسة” كما تسميه والدتي. فلا يوجد تصنيف خاص به، كونه يحتوي على كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته؛ كوننا لا نجد ما نريد أبدًا فيه عند حاجتنا إليه. ينقسم هذا الدولاب إلى ثلاثة أرفف، وكل رف بلا هوية أو تعريف، فكل شيء في كل مكان، فلم توفر تلك الأرفف سوى المساحة لا التنظيم. وتمتلك هذه الأرفف قوة تحمّل عالية، كونها لم تنكسر حتى هذه اللحظة من كثرة الأغراض التي تزيد وتتوالد فيها، والتي لا تنقص أبدًا بالرغم من حملات التنظيف التي نقيمها للتخلص من الأشياء التي لا نحتاجها أو التي لن نحتاجها أصلًا. وبالرغم من تلك الفوضى العارمة، يوجد نظام ترقية خاص، حيث يشتهر صيت بعض الحاجيات فتنتقل من الرف الثالث العلوي إلى الرف الأول في الأسفل ليسهل الوصول إليها، فإما أن يتم استخدامها بشكل مستمر حتى تغادر ذلك الثقب الدودي إلى مكان أقرب لنا، أو أن يتم هجرها حتى تعود للرف الثالث. ومن تلك الأغراض التي اشتهرت لفترة من الوقت لصقات الجروح، وذاع صيتها بسبب أحد أعضاء العائلة الذي يظن أن كل بقعة حمراء في جسم الانسان لهي جرح، وأن طريقة التعامل الصحيحة مع كل الجروح هي بوضع اللصقات كبر حجم الجرح أو صغر. وابتلي ذلك العضو بكثرة الجروح، وابتلينا نحن فيه لكثرة طلبه للصقات، فاضطررنا لنقل كرتون اللصقات من الرف العلوي إلى الرف السفلي؛ ليسهل إسكاته عند طلبه للصقة.

 

 

 

 

انتقل كرتون اللصقات من مكانه الذي أقام فيه لسنة كاملة تاركًا كرتون المفكات وحيدًا، وهو كرتون ورقي مستطيل هش وقابل للتمزق في أي لحظة، إلا أنه يرهب والدي فيحاول أن يتماسك بأقصى استطاعته. ومع أنه يحتوي على الكثير من مقاسات وأشكال المفكات، إلا أنه يفشل دائمًا بتوفير المقاس والشكل الذي يطلبه والدي، ومع أن طلبات والدي خالية من التعقيد كطلبه قائلًا:”أبي مفك مسطوح، مثلث، دقاق، أنا جايبه مع التلفزيون اللي شريت عام ٩٨” إلا أن كرتون المفكات دائمًا ما ينقصه المفك المثلث بالمقاس الصحيح. إلى جانب صندوق المفكات، علبة بسكويت معدنية حمراء، مزخرفة بإحدى المدن الأجنبية التي أجهل موقعها حتى هذه اللحظة، لكنها تضفي على علبة البسكويت جمالًا يجعل التخلص منها في حملات التنظيف صعبًا. وهي علبة تحوي على الكثير من المسامير، مسامير عريضة ونحيفة، طويلة وقصيرة، بلاستيكية وحديدية، وبراغي بكبر الإصبع وبراغي ضئيلة يصعب إمساكها. ومع ذلك التنوع الكبير تفشل هذه العلبة كذلك بإرضاء والدي، فطلب كطلب والدي قائلًأ:”أبي برغي قصير بس موب نحيف، زي راس الدريل الصغير، أنا أذكر إن عندنا براغي يوم نشتري الساعة اللي ما ركبتها بالجدار، وين براغيها؟” طلب يسير جدًا، يتطلب القليل من التضحية والكثير من الصبر. وكثيرًا ما جلست أنا ووالدتي متقابلتين، وعلبة البسكويت الحديدية فارغة بجانبي، نبحث عن البرغي المختار بين عشرات البراغي على الأرض، والذي دائمًا نفشل بالعثور عليه، ونتخيل شكله في أحلامنا فقط.

 

 

أسفل كرتون المفكات مباشرة، في الرف الأوسط، تقع أبرز محتويات الدولاب، نظارة غوص صفراء، وهي أول ما يجذب انتباه أي شخص لدى رؤيته للدولاب. فهي بعد سنة كاملة من الضياع، وجدت أخيرًا في مخزن الملابس، ووضعت في الرف الثاني ليسهل الوصول إليها في حال لا سمح الله استأجرنا مسبحًا. وهي رغبة موجودة فينا منذ الولادة، أن تستأجر شاليهًا، وبمسبح مناسب للجميع، وهو طلب بالطبع مستحيل. بالرغم من أن شروطنا قليلة إلا أن السبب قد يكمن في اهتمامنا بالتفاصيل، وتلك ميزة وليست عيبًا، إلا أن نفوس بعض أصحاب الشاليهات مؤخرًا أصبحت ضيقة ولا تطيق صبرًا لملاحظاتنا نحن الغير قادرين على السباحة، ولا أصبحوا لا يهتمون إلا بالـ “aesthetics” وأعني بذلك التصاميم البديعة للعين، والتي قد تكون غير عملية، إلا أنه لشيء جيد أحيانًا أن نخرج بصورة جيدة للنافورة التي تتوسط الشاليه لنضعها على السناب تشات، بالرغم من أنها تغرقنا بماءها الذي يضيع طريقه عن الحوض كل خمس دقائق. وتكمن شروطنا كالتالي:١- أن يكون الشاليه بأكثر من دورة مياه واحدة؛ تفاديًا للشجار بعد الخروج من المسبح. ٢- ألا يكون عمق المسبح كبيرًا، والمقياس لذلك رأس والدي، فإن كان الماء يصل إلى ما فوق رأس والدي فالسباحة ممنوعة. وقد تكون كلمة سباحة كبيرة جدًا لما نقوم به فعلًا بالمسبح، قد تكون محاولة النجاة من الغرق في مياه عمقها متر واحد لهو التعبير الأدق هنا. ٣- حاجز حول المسبح، ومن المهم أن يصل طوله على الأقل لخصر والدي. وأما عن الشرط الرابع فهو ليس أساسيًا، إلا إن تواجد فنحن على استعداد لحجز ذلك الشاليه إلى الأبد، وهو أن يكون المسبح مغلقًا؛ تفاديًا لنزلات البرد. ومع أن شروطنا هذه بسيطة وسهلة، إلا أنها صعبة المنال.

 

 

إلى جانب نظارة السباحة الصفراء مباشرة شريط لاصق شفاف، وهو الغرض الأكثر طلبًا في كل الأوقات، والأكثر ضياعًا على كل الأصعدة. ومما يثير العجب، أن بجانب هذا اللاصق العملاق لاصق أصغر منه، أو كما تسميه جدتي”شطرطون الريالات” بسبب استخدامه الوحيد لربط أجزاء الريالات المتشتتة في كل مكان آنذاك، وتلك مصادفة غريبة قد لا تحدث مرتين لاجتماع نوعين من اللاصق في مكان واحد. وأما عن الحجم العملاق الذي لم نجده أبدًا عند حاجتنا إليه فيذكرني بطفولتي. فعندما كنت في الصف الأول الابتدائي، وكطفلة تتفاعل مع كم هائل من البشر لأول مرة، فلدي الكثير لقوله والكثير للتعليق عليه. وبعد عدد كبير من الإنذارات التي هددتني بها استاذتي لأقلل من مشاركاتي التي بلا فائدة، قامت بوضع شريط لاصق عريض شفاف على فمي، للحد من كلامي. لكنني استغللت الوضع لمصلحتي، فقمت بتهويل الأمر لأضحك باقي الطالبات، فإن لم أستطع الكلام، فعلى الأقل سأجعل الجميع يضحك، وكانت تلك بدايتي في التمثيل الصامت. لم يدم الأمر سوى لدقيقتين كحد أقصى، إلا أنني أعزو رغبتي الهائلة للحديث التي أعاني منها الآن؛ كانتقام لتلك الدقيقتين اللتين سلبتا مني.

 

 

لم يكن كرتون اللصقات وحيدًا في مكانه الجديد، ففي الرف السفلي وقريبًا من متناول اليد توجد مكعبات إشعال الفحم البيضاء. لها مكان خاص فيها، وكأنها تمتلك الدولاب كاملًا، ولم ينتهي بها الحال هنا كباقي الأشياء، وإنما عُرفت بمكانها منذ لحظة شراءها، لم يتغير مكانها أبدًا، ولن تتزحزح هي من عرشها. ليس قربها لوالدي خوفًا منه؛ في حالة أن يوجه جام غضبه عليها في حالة فقدانه لها، وإنما خوفنا نحن من والدي إن لم يجدها. وفي حالة سابقة لفقدانها، اقترحت على والدي أن يشعل النار بالفازلين، فترطس كل شيء بالفازلين، من الحطب وثوب والدي حتى الملقاط والموقد. ولم تشتعل النيران، وإنما اشتعل والدي غضبًا. لكنني أؤكد أنني لم أكذب بذلك الخصوص، فلقد شاهدت بشكل مباشر خالتي وهي تقوم بذلك، وقد تكون تلك ميزة من مميزات الخالات، تطويع كل شيء لرغباتهم حتى الفازلين وإشعاله للنار.

 

 

لتكتمل الفوضى لا يجب أن تغيب الأدوية عن المشهد. وتشكل علب الأدوية تلك فريقًا رائعًا مع كرتون اللصقات بجانبها. فللوهلة الأولى عند فتح الدولاب، قد يظن الجميع أن الدولاب مخصص كصيدلية مصغرة  للمنزل، وثوان حتى تختفي تلك الفكرة بمجرد رؤية نظارات الغوص الصفراء. وضعت علب الأدوية تلك قريبًا من متناول اليد لأي حالة طارئة، إلا أنها لم تنفع أبدًا، فأغلبها منتهي الصلاحية، وبعضها يحتاج أن يحفظ في مكان بارد كالثلاجة لا في دولاب المطبخ. والقليل الصالح والقابل للاستعمال بدون وصفة لا نعرف ماهيته، فالنشرة مفقودة، والاسم على العلبة غير واضح. أما عن العلاج الوحيد الذي نستطيع استعماله بالرغم من فقدان الوصفة وغياب علبته الحقيقية فهو فوار الفواكة. لا أعلم حتى هذه اللحظة دواعي استعمال الفوار، لكنه العلاج الأول لكل داء بعد البنادول. تعطيني إياه جدتي عندما أشكو من الصداع، آلام المعدة، الحمى، فقدان الشغف، وحبسة الكاتب. بالرغم من أنني لا أؤمن بحبسة الكاتب، لكن قد يكون الفوار العلاج لمن يؤمن فيها.

 

 

تمر الأشهر ويقل الطلب على لصقات الجروح، فتعود لمكانها المعهود، ليحل مكانها غرض آخر وقصة أخرى. وتزداد الأشياء فيه ولا تنقص، تزوره مجلة العثيم بشكل دوري، نحتفظ بها في حالة عودتنا مجددًا للعثيم لنستفيد من العروض، إلا أننا لا نعود أبدًا إلا حين انتهاء العروض وبأيدينا مجلة جديدة. تخبئ فيه والدتي أحيانًا قطع من الشكولاته، مستفيدة من الفوضى التي تعمي الأعين عن ممتلكاتها، إلا أنها سرعان ما تكتشف، وتؤكل مؤونتها بلمح البصر. فتبدأ رحلة مطولة للتحقيق عن السارق، والذي يعرفه الجميع. وبالرغم من امتلاءه بكل ما لم يخطر بالحسبان، وبفيضانه بأشياء عشوائية، إلا أنه المنقذ في مواقف تمكن اليأس منها. كالمرة التي نقصنا فيها عشرين ريالًا لندفعها للمندوب الذي ينتظر أمام الباب، فوجدنا باقي المبلغ فيه، والتي اتضح بعدها أنها أموال العاملة، وتفاجأت بأننا نعتبر الشوكلاته والريالات واحدًا، وكل شيء موجود فيه يعتبر سبيلًا. ومن العجيب أن المفك المثلث المسطوح حقيقي، فقد وجدته قبل يومين، ولم يكن من وحي الخيال والأحلام. وإن كان في ذلك حكمة، فإن لك وقتًا تلمع فيه، وإن كان مقدر لك أن تحقق أحلامك، فإن النجاح مسألة وقت ليس إلا. وكما لكل شيء مكانه في الدولاب، فبالتأكيد سيتسع لك مكان ما.

اقرأ المزيد

أجمل سنوات الكتابة، أسوأ أعوام كرة القدم.

عصَرَ طفل، في العاشرة تقريبًا، فجأة أصابع قدميه بيديه، فيما جلس مع والده المنكفئ على مركاه، أمام جريدة فاتته صباح ذاك اليوم، يزدري الأب بخفة توتر ابنه، ويستغل..

اقرأ المزيد

أن تكون صحفيًـــا للسينمـــا

كانت أغرب سيرة ذاتية كتبتها في حياتي، كتبت برنامجي اليومي، وقراءاتي اليومية، وما أتابعه ومالا أتابعه، والكتّاب الذين أقرأ لهم والذين أخطط للقراءة لهم، حتى أنني أشرت للحفلات الغنائية التي أحضرها، وأرفقت بعض التدوينات البسيطة...

اقرأ المزيد

حين رسم كليمت فكرة فرويد

للرسم تاريخ قديم لدى البشر، ابتدأ حتى قبل اختراع الكتابة بستين ألف عام! وقد مر هذا التاريخ بمنعطفات كثيرة، كانت استجابة للظروف التي قد يكون أهمها على الإطلاق، كما يشير الناقد إرنست غومبرتش، مؤلف الكتاب...

اقرأ المزيد