يبكي بمجرد حمله من على الأرض، تعيده والدته على المفرش فيهدأ تمامًا، على العكس من كل أولادها، هذا الولد مختلف. ينام متشبثًا ببطانيته، لا يتركها أبدًا، تحول لونها من الأبيض إلى البني. يستيقظ من نومه فزعًا، يحلم كثيرًا، يبكي بلا انقطاع، لا يهدأ إلا بتشغيل كل المصابيح، شربه للحليب متقطع، وفي أثناء شربه يختنق به، يخرج الحليب من فمه، يملأ المكان البياض والبكاء. 

 

في كل يوم تجرب والدته حلًا جديدًا معه، يرهقنها زميلاتها المعلمات يوميًا بحلول لتجربتها. تقول إحداهن:”هذا والله ما هو غير دلع، تدلعينه وتعودينه على الدلع وتقطعين الدلع عنه وتستغربين ليه يبكي.” وترد عليها أخرى:”أكيد الحليب ما ناسبه، قلنا لك كم مرة رضعيه طبيعي، أفيد لك وله وترفضين.” تتأرجح بين هذا التعليق وذاك، تعود للمنزل بعبوة حليب جديدة، امتدحها الصيدلي الذي حاول بيعها بطانية ذات نظام تدفئة وحاول بيعها إبر تخسيس لما بعد الولادة. إلا أن الحليب لم يفد في أي شيء، وإنما زاد الوضع سوءًا، فأصيب الطفل بطفح جلدي في وجهه، انقلب وجهه إلى الأحمر القاني، ومنع من حرية يديه، قامت والدته بتغطيه يديه بقفازات تمنعه من حك وجهه، وزاد هذا الإجراء من بكاء الطفل. 

 

تنقطع نصائح المعلمات لفترة ريثما يستعيد الطفل صحته، تتدخل الجدة، تقول:”أنتِ غلطانة، عذبتي الولد، وأنتِ من البداية المفروض عطيتيه زيت زيتون، الزيت وحدة بوحدة، يطلّع اللي ببطن الولد كله، ويرجع طبيعي.” تقوم الأم بتسخين زيت الزيتون، تعطي الولد بالملعقة في كل صباح، يبتلع بعضه أحيانًا، ويبصقه في غالب الأحوال. وقد كانت الجدة على حق، فالطفل أخرج ما في بطنه كله، إلا أنه لم يتوقف عن البكاء، ولم تتوقف الكوابيس عن الحدوث، وإنما زادت، وأصبح يرفض شرب الحليب بشكل نهائي. تتدخل الجدة مرة أخرى، وتخبر زوجة ابنها أنها يجب أن تطعمه التمر المنقوع، وقد قامت والدته بذلك، إلا أنه يرفض شربه نهائيًا، كما رفض كل شيء آخر. 

 

تتجنب الأم جلسات فطور المعلمات، لأنها تنقلب إلى نصائح غير منقطعة، والكثير من اللوم والعتاب. يلاحظن أعذارها المتكررة، تتعذر بتحضير الدروس، بعدم شعورها بالرغبة بالأكل، تتعذر بإفطارها في المنزل، ويرغمنها على الأكل معهن بعد أن تجنبن كل الأحاديث عن ابنها. عادت لتناول الفطور معهن بشكل متقطع، لا يتكلمن عن ابنها أو عن الأطفال بشكل عام، ولا تدري إن كانت هذه حسنة أم سيئة.

بعد انتهائها من الفطور في إحدى المرات، تبعتها بهدوء معلمة التربية الإسلامية، أمسكتها من ساعدها بلطف وابتسمت ابتسامة هادئة. قالت لها بصوت منخفض:”والله إني متضايقة لضيقتك، وإني أدعي كل يوم إن الله يلطف بحالك، وأي شيء تبينه تراني حاضرة، وإن بغيتي أقرأ عليه والله إني مستعدة. عاد إن بغيتي أقرأ عليه أنا ولا أم مساعد، أم مساعد جيدة مع البزران، وبيتها قريب ما هو ببعيد، إن بغيتي رقمها عطيتك إياه.” وكحل أخير، أخذت رقم أم مساعد.

 

فكرّت كثيرًا قبل أن تتصل بها، هل ستكون أم مساعد فعلًا الحل النهائي؟ ماذا لو كانت تدعي خبرتها بالعلاج، وماذا لو زاد الوضع سوءًا؟ إلا أنها ببكاء طفلها الذي يغطي صوت تفكيرها، اتصلت بها. لم يكن الاتصال طويلًا، ولم تجب أم مساعد بنفسها، وإنما مديرة أعمالها بالأصح. سألت مديرة أعمالها عن الطفل ومما يشكو منه، عن اسمه وعمره وعن العلاجات التي استخدمتها والدته. اتفقتا على وقت، وأعطتها مديرة الأعمال العنوان، ولم تقبل الحديث عن السعر، فأم مساعد معروفة بأنها لا تأخذ المال إلا بعد شفاء المريض.

 

في منزل يبعد عن وسط المدينة، تحيط به المزارع والأراضي الميتة، ويؤدي إليه طريق ترابي غير معبد، تلتقي أم مساعد بمراجعيها، من النساء والرجال. تدخل الأم المنزل وولدها بين يديها لا يتوقف عن البكاء، درجات صخرية تقود لفناء واسع تتوسطه نخلة، وعلى يمينها ويسارها كراسي مناسبات حمراء، نساء متدثرات بعبائتهن، أولاد وأطفال، بكاء مرتفع، وهمهمات. تتوجه الأم لأمرأة مشغولة بترتيب الزوار والحديث معهم. تسأل الأم عن أم مساعد، وتخبرها المرأة باقتضاب:”أخذتي رقم؟ روحي خوذي رقم من الرجل عند الباب من ورا، وتعالي اجلسي لين يجي دورك.” 

 

تجلس الأم في آخر كرسي موجود في الفناء، تحضر المزيد من النساء، يقفن بجانبها، وبعضهن يجلسن على الأرض. تسألها المرأة التي بجانبها عن سبب حضورها، تجيب بمشكلة ابنها الذي لا يتوقف عن البكاء، تخبرها المرأة:”ترا والله الحل ما يجي من أماكن زي كذا، أحيانًا يصير عندك بالبيت بس ما تنتبهين له، شوفي إن كان فيه نمل يقرص ما تدرين عنه، ولا حساسية من الصابون، ويمكن بيتك حار عليه.” لم يخطر ببال الأم أفكار كهذه قط، كيف لهذه الأفكار أن تغيب عن بالها؟ وفي لحظة الهدوء التي أعقبت تلك الاقتراحات، قالت المرأة ذاتها:”أنا والله جاية اليوم أبغى حل للناس اللي يكلموني كل يوم، أنا أدري إن محد يسمع هالأصوات غيري، وأدري إن ما هنا حل إلا إنها تطردهم، أبغاها تقرأ علي وتطمني، كل يوم يقولون لي سوي ولا تسوين، وأنا والله تعبت.” 

 

تنتفض الأم رعبًا، تستعيذ من الشيطان، تعانق ابنها وتشتغل بتعديل ملابسه. تنظر لها المرأة بجانبها وتبتسم، إلا أن الأم تنهض وتمثل هدهدة صغيرها الذي توقف عن البكاء فور دخولهم المكان. ينقص العدد تدريجيًا، يحين دورها أخيرًا، تسمع آذان المغرب فور دخولها مع الباب لأم مساعد، تستقبلها أم مساعد بابتسامة، وتطلب منها الجلوس بجانبها. 

 

تأخذ أم مساعد الطفل وتضعه في حجرها، تلاعبه، يبتسم لثواني ويعود لهدوءه، تشرح والدته حالته كاملة، بكل تفصيلة، سواء كانت مطلوبة أم لا. تستمع أم مساعد بصمت، تخلع ملابس الطفل قطعة قطعة، يبكي الطفل بمجرد إمساكها لبلوزته، تخلع كل ما عليه، يبقى بحفاظته، تلمس بطنه وتضغط عليه، تلمس بشرته، تمسك بيده وتسحبها فيشتد بكاءه، تمسك بكتفه ويصرخ بأعلى صوته. ترفع رأسه وتلمس رقبته، تفتش في شعره، وحينما انتهت من معاينته، أعطته لوالدته وصرخت باسم زينب. 

 

جاءت زينب، ترتدي عباءة ونقاب بالرغم من عدم وجود أي رجال بالمكان. طلبت منها أم مساعد أن تحضر الشاش الأبيض وخلطة المصع. تحضر زينب لفة كبيرة من الشاش الأبيض، وعلبة شبيهة بعلبة المربى الزجاجية، مليئة بسائل بني اللون، ثقيل ورائحته نفاثة، ويحتوي على بعض القطع التي لم تختلط بباقي السائل. تستطيع الأم تمييز بذور الحلبة تطفو على السطح بفعل الزيت الذي انفصل عن باقي المكونات. تجهّز أم مساعد الخلطة، تعيد تحريكها، تقص من الشاش مايكفي ليغطي إصابة الطفل كاملة. تقول أم مساعد لوالدته:”ترا ولدك ممصوع، يده بتنفك عن كتفه، انتبهي له، وشيليه زين، ولا تخلين أحد ينتبه له غيرك، وغير كذا ما به إلا العافية.” تطمئن الأم بتشخيص أم مساعد، وتسألها أكثر عن أساليب العناية، تحاول أن تسأل عن المبلغ الذي يجب أن تدفعه، ترفض أم مساعد أخذ أي ريال حتى يأتي الطفل سليمًا معافى ووقتها ستأخذ ما تعطيها الأم. 

 

في طريق العودة، تفكر الأم في الاحتمالات التي قد تكون بسببها تأذت يد ابنها. تخبر زوجها بأن يتوقف عند متجر الكاميرات الذي افتتح حديثًا. يستغرب زوجها من طلبها، يخبرها بأن ابنها سيتحسن من علاج أم مساعد، ولا داعي لأي كاميرات أو تكاليف لا فائدة منها. تخبره زوجته بأنها تشك في خادمة أمها التي تأتي في كل صباح لرعاية ابنها، يقول زوجها:”خلي عنك الوساويس اللي ما لها داعي، ولا تظلمين المسكينة وتقطعين رزقها.” تصّر الزوجة على طلبها، وتخبره بأنها ستشتري الكاميرات بمالها الخاص، وهذا ما يجعل الزوج يجن جنونه، في اللحظة التي تقول فيها زوجته بأنها لا تحتاج لماله، ينفجر غضبًا، ويشتريه مرغمًا. وبدلًا من أن يوافق على طلبات زوجته ويحاول فهم احتياجاتها، ينتهي به الأمر دائمًا بالدفع غاضبًا. 

 

يفتح الزوج باب المحل الزجاجي بقوة، يصل الباب إلى حده الأقصى ولا يعود بعدها ليقفل. يسأل عن كاميرات صغيرة الحجم للمراقبة، يجيبه صاحب المحل عن سبب احتياجه لها وما إذا كان يريد تركيبها في داخل المنزل أو خارجه. يجيب الزوج بكل تفاصيل المسألة، يتعاطف صاحب المحل معه، يعطيه أفضل الكاميرات ويخبره بأن التركيب مجاني.

 

يعود الزوجان للمنزل، ويتبعهما عامل تركيب الكاميرات. وضعوا أربع كاميرات في داخل المنزل، الأولى في الصالة، والثانية في المطبخ، والثالثة أمام دورة المياه، والأخيرة في المجلس المخصص للنساء، كونه يستخدم في الغالب كغرفة معيشة منه إلى غرفة استقبال. يذهب الزوجان للنوم بعد تأكدهما من إخفاء الكاميرات تمامًا. 

 

تستيقظ الأم مبكرًا، تتجه لسرير ابنها، تراقب تحركات صدره، يستلقي على كتفه السليم، رائحة الحلبة تنتشر حوله، تعيد تغطيته، تقرأ عليه الأذكار، يقاطعها طرق على الباب، تذهب للإجابة، تدخل الخادمة بابتسامة، تسأل عن الطفل، وتتجه بعدها إلى المطبخ. تخبر الأم الخادمة بأن عليها أن تعطي ابنها الحليب الجديد الذي اشترته بالأمس، وتخبرها عن مكانه. 

 

تعود الأم ظهرًا، تجد ابنها نائمًا، تودعها الخادمة التي انتهت مهمتها بعودة الأم وتغادر المنزل. تهرع الأم باتجاه الكاميرات، تنتزع أشرطة التسجيل بعجلة، تتسمر أمام التلفاز، وتدخل الأشرطة الواحد تلو الآخر. 

 

في الشريط الأول، يبكي ابنها مستلقيًا على الأرض، تمشي الخادمة ببطء نحوه، تراقبه وهو يبكي أسفلها، تطأ كتفه المصاب بقدمها، يزداد بكاءه ويتحول لصراخ، تزيد الضغط برجها أكثر وأكثر، تتركه وتعود للمطبخ. تعود بزجاجة الحليب، تسكب نصفها على وجهه، يختنق بها ويكح، تنتظره أن يفرغ من سعاله لتعطيه الحليب أخيرًا، وبعد شربه للزجاجة تحمله الخادمة لدورة المياه. 

 

تتوقف الأم عن المشاهدة، تضع يدها على صدرها، تبكي بشدة، تلبس عباءتها، تحمل ابنها النائم ببطانيته، تأخذ الأشرطة بيدها، وتتجه إلى زوجها الذي وصل توه للمنزل، وتخبره بأن يركب السيارة وأن يتجه لمنزل والدتها. 

اقرأ المزيد

سيـــجار وشـــاهي / أو /
Anime Sandwich

“اللاونـج” هـو اسـم للتجربـة وليـس المـكان، وهـو إذن يـعني مـا تريـد أن تعنيـه، بقليـل مـن الإصرار وتجاهـل الأسـئلة غير المرغوبـة مـن قبيـل: “تعرفـون وش مـعنى الكلمـة؟”. في الريـاض كان هنـاك المطعـم والمقهـى، ثـم جـاء الكـوفي...

اقرأ المزيد

سحر الجرأة الكامن

مغامرة أم جرأة؟ لا أعرف الشخص الذي ترجم مصطلح venture capital إلى “الاستثمار الجريء”. كان بإمكانه اختيار “المغامر”، ولكنه اختار “الجريء”. ولذا أنا ممتن له.    venture capital تعني الاستثمار الذي يُضخ في الشركات الناشئة،...

اقرأ المزيد

أجمل سنوات الكتابة، أسوأ أعوام كرة القدم.

عصَرَ طفل، في العاشرة تقريبًا، فجأة أصابع قدميه بيديه، فيما جلس مع والده المنكفئ على مركاه، أمام جريدة فاتته صباح ذاك اليوم، يزدري الأب بخفة توتر ابنه، ويستغل..

اقرأ المزيد