كلمة أُخرى، يصعب تفسيرها، تضاف لقاموس اللامعنى وتكون غصنًا لشجرته، وكغيرها مفردة نادرة، تُفسر بالذكرى وجمع الذكريات، تفسر بالموقف الصادر اللاإرادي، برائحة عطر عتيق، حيث أكل الزمان من الذاكرة ما أكل، وصمدَ حجر العطر باقيًا لا يُمس، تمر سنون وعقود، وبطولها يزداد الحنين كلما ابتعد في العمر، يُعاقب صاحب الذكرى بعقاب الحنين بتهمٍ مبهمة.

لازمتني هذه المفردة، قرأت وبحثت، وقفت حائرًا، لا أكاد أميز ولا أفهم حرفًا من معناها، أوقفت يداي عن البحث، وألزمت عقلي استئناف ما قد بدأه عقابًا مزمنًا له، وجدت ما أرى من الشيوخ ومتقدمي السن تفسيرًا وتبيانًا أعظم مما يقدمه لي القاموس من شرح.

اعتدنا كغيرنا، التحلق حول جدّنا صامتين، متأملين روحه التي عاشت داخل جسده الذي رأى بعينيه وسعى بيديه، فكافحتا ما واجه به حياته التي طالما وقفت معه مرة وعادته مرات، لم نرَ منه التضجر ولا السخط، يعيش مغلفًا حزنه بسعادةٍ تملأ الدار ببهجته وحكاياته.

الخبر، التسعينات الميلادية.

لم يعد جدي يكترث ولا يحمل همّ استفهاماتنا التي كان يراها سطحية بديهية موروثة ويجب ألّا تُبدى، عادت الذاكرة به، وملأ قلبه الحنين حتى انعكس على لسانه، صرنا نشهد كلمات حديثة المسمع، وذاتها قديمة المصدر منه، نستنكر فنسأل، وبصدر رحب يجيب: «تعني كذا ومشهورة عند أهل القرية الفلانية، وعمكم كان يرددها رحمة الله عليه، وعلى طاري عمكم…» منعطف جديد يحمل إشارة الحنين، تتفرع القصة، يسحبنا لها أسلوبه التسويقي بالفطرة مسحورين، تنتهي ليلتنا وتجيء الأخرى لنطلبه «أبوي عادي تكمل السالفة اللي جابت طاري الكلمة الفلانية اللي يقولونها الديرة الفلانية؟».

شكرًا لكَ جدي، فسّرتَ الحنين وأوصلته لأعماق إدراكي، لا أُجيد أن أوضحه لغيري، ولكن لا يهم.. نظير الأمر يحدث مع متوسطي العمر من عمّ وخال وإن اختلفت الطريقة، كقولهم «والله يا جايك جيل ما تدري وش نهايته، وييين على أيامنا…».

بادئ الأمر.. كان الاستهلال بهذه الكلمات ينفرني من المجلس اجتنابًا للدخول في نقاش يُقال فيه ما هو أهول من ذلك، تصالحت مع هذا الاستهلال لمصلحتي، بحثًا عن تفسير لتلك المفردة المبهمة، فعلمت أن جلد الجيل الجديد ما هو إلا بوابة لفتح باب الذكريات بمفتاح الحنين، لتبدأ رحلة اللهفة للماضي، تغرق أعينهم فتكاد تفيض، حاجز ٌيمنعها لا أحد يعلم ماهيته، وما إن يلقي أحدهم موقفًا قديمًا يميل للظرافة إلا ويضحك الجميع مرددين «دمّعت من الضحك!»، انكسر الحاجز، والجميع كذلك يعلم أن الدموع ليست دموع ضحك وتبسّم، إنما دمع الحنين الخالص، ممسكًا بهذا العذر المفضوح.

مرة أخرى، تفسير آخر، شكرًا لكم متقدمي العمر يا خمسينيين!

نشأتُ في الخبر، بين مثقفي البلد ومؤثريها كما يُشاع عنها، انتقلت بعد عمرٍ لا يُستهان به إلى العاصمة، فأصبحت العودة للخبر عملية مكتملة أطراف الحنين، مرتين في السنة الواحدة لا تكفي! شايّ في الصالة، عصريّة كغيرها نجهل ما تُخبئ خلف شمسها حتى الغروب، ينطلق صوت والدي معلنًا حالة استنفار لا تهدأ لنا عاصفة بعدها، نُباغت شعور الشمس فلا نكترث بما تخبئه لنا، «ها، ودكم بالخبر؟»، لا نجيب، يُجيب الحنين خوفًا من أن يحيد والدي ويعتليه الندم على هذا المقترح، لا تغيب الشمس إلا وقد جمع الجميع ما يلزمه للسفر، نصل للخبر لنستنكر «أوه! ما تغيرت عقبنا!»، الحقيقة أنها تغيرت عمّا كانت عليه بطبيعة الحال، فندرك أن زيارات متكررة كل شهرين بالطبع لا تجعلنا نميز حاضرها من ماضيها.

شكرًا عائلتي، بيان آخر بلا حروف، يفك ستار الإبهام عن الحنين بلا قاموس ولا معجم، وما الحنين إلا فرد من جموع كلمات تباغت البشر ولا تفضل أن تأتي بطريقة ساذجة تحمل معنىً واضحًا.

اقرأ المزيد

ويــــن أحــــب اللــــيلة ويــــن؟

نعرف المربعانية بمجرد أن يعلو صوت أبو نورة ليلاً من إحدى السيارات الواقفة عند اشارة الدرعية الأولى «كفها فلة جديلة من حروف… قصة الحناء طويلة في الكفوف» إذاً هذا هو إعلان الشتاء ونشيده الرسمي، نتمايل...

اقرأ المزيد

أجمل سنوات الكتابة، أسوأ أعوام كرة القدم.

عصَرَ طفل، في العاشرة تقريبًا، فجأة أصابع قدميه بيديه، فيما جلس مع والده المنكفئ على مركاه، أمام جريدة فاتته صباح ذاك اليوم، يزدري الأب بخفة توتر ابنه، ويستغل..

اقرأ المزيد