للرسم تاريخ قديم لدى البشر، ابتدأ حتى قبل اختراع الكتابة بستين ألف عام! وقد مر هذا التاريخ بمنعطفات كثيرة، كانت استجابة للظروف التي قد يكون أهمها على الإطلاق، كما يشير الناقد إرنست غومبرتش، مؤلف الكتاب الشهير “قصة الفن”، اختراع الفوتوغرافيا (الكاميرا). فقبل ذلك اهتم الرسامين بتطوير تقنيات الرسم وأدواته لمحاكاة الطبيعة والواقع كما يراه البشر، فاعتنوا بالألوان، والظلال، والأضواء، وثلاثية الأبعاد. لكن مع ولادة التصوير الفوتوغرافي، انزاحت بؤرة الاهتمام هذه عما كانت عليه، فبات المتلقي يجد تفكيكًا في اللوحة، تفكيكًا يتصوره الرسام يحدث في العقل والدماغ، سواء كان تفكيكًا للأشكال الأساسية للمناظر، أو تفكيكًا تحريفيًا بقصد استثارة مشاعر أو أفكار ما. فأعيننا ترى أشكالاً بدائية مفككة قبل أن تتم عملية إدراك النظر النهائية التي تسبغ على المرئي من مخازن الذاكرة وغيرها، وقد أصاب حدس الفنانين التفكيكيين، ابتداء من بول سيزان الذي اعتقد أن كل الأشكال الطبيعية قابلة للاختزال في ثلاثة أشكال، المكعب، والمخروط والكرة، مرورا بالتكعيبيين، انتهاء بموندريان الذي اختزل الأشكال أكثر ليحصرها في الخط المستقيم واللون، ففهمهم الاختزالي هذا سبق فهم علماء الأعصاب في آليات النظر الطبيعية الاختزالية التي تحدث في العين والدماغ، أو قل: قادها لهذا الاكتشاف علميا. وقد يكون التفكيك كاريكاتوريًا بمعنى ما، أي بتحريف الأبعاد أو تحجيم الجسد أو تضخيم اليد وكل ما إلى هنالك بقصد إبراز المشاعر كما حدث في الحركة التعبيرية. فبعد دخول الفوتوغرافيا في المشهد، تراجعت رغبة الفنانيين في القبض على اللقطة الواقعية تأقلمًا وإدراكًا لقدرة الفوتوغرافيا المستقبلية، وتراجعت بذلك اللوحات ثلاثية الأبعاد، فأنت لا تجدها لدى ما-بعد-الانطباعيين كفان غوخ ولا لدى التعبيريين مثل مونش، صاحب اللوحة الشهيرة “الصرخة”.

 

والمتتبع للتاريخ سيجد أنه من الطبيعي أن يستخدم الفنانين التطور التقني العلمي لتحسين أدوات الرسم وتقنياته، وتجد مصداق ذلك أعمال أساطين فنون عصر النهضة، العصر الذي أعلن ولادة العلم الحديث، مثل دافينشي، الذي يصح وصفه بالعالم بالمناسبة، بل قد يصح القول إنه ابتدأ فنانا وانتهى عالما، فمن عدة اهتمامات علمية كان اهتمامه بتشريح الجثث بعد سرقتها، إذ كان محرما تشريح الجثث آنذاك، وتجد أثر تلك المعرفة في لوحة “الرجل الفيتروفي”.

بورتريه أديل باور لغوستاف كليمت
لوحة القبلة لغوستاف كليمت

وهذا التطور عبر العلوم انسحب بطبيعة الحال فيما تلا ذلك من عصور وعلى ما جاور الرسم من فنون. إلا أنه مع بداية القرن العشرين، دخلت العلاقة بين الرسم والعلم منعطفًا جديدًا. فذلك العصر اتسم ببداية اهتمام المجتمع العلمي بالظواهر غير المادية، فهذا عالم الأعصاب سيغموند فرويد اهتم بدور اللاوعي تحديدا، وتأثر بداروين لدرجة أنه لقب بـ “داروين العقل”، مبتدئا بحصر اللاوعي في المقموع من الأفكار الجنسية، متسقا مع داروين الذي يرى أن القوة الدافعة للسلوك الحيواني (والبشري تضمينًا) تعتمد على ركائز البقاء والتكاثر حصرًا، إلا أن فرويد أضاف بعد ذلك بسنوات، على إثر ما شاهده من فظائع آثار الحرب العالمية الأولى، دافع العدوان، بشكل يوازي أو يتداخل مع دافع الجنس. وبالتزامن مع هذا، ومن باب اعتراض وليام جيمس، الفيلسوف البراغماتي ووالد طب النفس الأمريكي، على حصر العلوم في الظواهر الملموسة، دعا إلى دراسة المعنويات بطريقة علمية، فألقى مجموعة محاضرات بهذا الخصوص جمعت فيما بعد في كتاب “تنويعات التجربة الدينية”.


واتسم ذلك العصر كذلك بشيوع الصالونات الثقافية عما هي عليه الآن، هذه التي كانت تفتح أبوابها بطبيعة الحال للمثقفين والفنانين، لكن ليس للعلماء. ففي حين كانت الأديبة الأمريكية جيرترود شتاين تملك الصالون الباريسي الأبرز في فترة بداية القرن العشرين، وزواره آنذاك هم من يشكلون الأسماء الكبيرة في سماء الثقافة اليوم، من رسامين وروائيين وشعراء، إلا أنه لم يكن مزارا للعلماء، بالرغم من أن باريس كانت تعج بالعلماء وقتذاك، مثل ماري كوري، والدة الفيزياء النووية. وهذا مختلف عما دار في فيينا في صالون بيرتا زوكركاندل حيث كان زوجها إيميل زوكركاندل، طبيبا وعالم تشريح. ومن مرتادي هذا الصالون: مدشن الحداثة في النحت، الفرنسي أوغست رودين، ومدشن الحداثة في الرسم النمساوي غوستاف كليمت، والموسيقار البوهيمي غوستاف مالر، والروائيين شتيفان سفايج وآرثر شنتزلر. فهناك اختلط كليمت بالطبيب والعالم المضيف، وبدأ يتأثر بالفكرة العلمية المدشنة آنذاك عن العلاقة الوطيدة بين الجنس المقموع وبين اللاوعي، واستخدم كليمت هذه الفكرة القادمة من العلوم، فزخرف ثياب نسائه بدوائر كناية عن البويضات، رمز الجنس لدى المرأة، وثياب رجاله بمستطيلات كناية عن الحيوانات المنوية، رمز الجنس لدى الرجل، وهذا يتضح جليا في أشهر لوحاته، القبلة، وكذلك في لوحة بورتريه أديل باور. ومن هنا تعمق الاهتمام باللاوعي في تلميذيه الرسامين أوسكار كوكوشكا، وإيغون شيلي، الذين حاولا رصد اللاوعي في لوحاتهم كذلك، بل اطلع كوكوشكا على الصور الفوتوغرافية (العلمية) لمرضى الطبيب الفرنسي الشهير للأعصاب جان مارتن شاركو، أستاذ فرويد ذاته، المصابين بما يسمى بالهستيريا تلك الفترة، لدراسة سلوك أجسادهم (الوجه والكفين تحديدا) ليستخدم ذلك في لوحاته، مرتكنا على العلم في بعض إبداعه كذلك.  ففي الوقت الذي استخدم فيه الرسامين التطور التقني العلمي في أدواتهم وطرائقهم، هنا بدأت تدخل المعرفة العلمية في لب الفكرة الإبداعية للوحة.

كليمت
فرويد
شنتزلر
لوحة الصرخة لإدوارد مونش

وشنتزلر المذكور آنفا، أحد مرتادي الصالون، كان في الأساس طبيبا مجايلا لفرويد في كلية الطب، وقد اهتم كذلك بعلم النفس والهستيريا والأحلام، وكان باعتراف فرويد هو نظيره الموضوعي، بل انه كان أقدر في فهم سيكولوجيا النساء من فرويد، وهذا يتضح بمجرد أن تقرأ القصة المعقدة لمريضة فرويد “دورا”، حيث فسر حادثة الاعتداء عليها وهي قاصر وردة فعلها بصفع المعتدي أنه سلوك مناف لدوافعها الدفينة والمعقدة واللاواعية التي تتضمن رغبة بالمعتدي! بينما يجد قراء أدب شنتزلر أنه أقدر وأكثر براعة في فهم سيكولوجيا المرأة، فها هو يتناول في نوفيلا “السيدة إلسا”، تعقيدات شخصية امرأة طلبت منها والدتها أن تحاول إقناع صديق عائلة ثري بإقراض العائلة مبلغا من المال لحاجتها الشديدة له، إنما هذا الصديق أرادها أن تتعرى أمامه بالمقابل، وبعد صراع مرير داخلها قررت أن تتعرى أمامه في جمع من الناس وهي تنتحر. والأمثلة لا تقتصر على مجال فني ما، فمثل ما فعل شنتزلر في الرواية وكليمت في الرسم، فأنت تجد ذلك في السينما عبر المفاهيم الفيزيائية العلمية في صميم أكثر من فيلم للمخرج البريطاني الشهير كريستوفر نولان.

 

ففي النهاية، العلاقة بين العلم والأدب ليست محصورة في صنف الخيال العلمي الذي يفترض أن يغذي خيال العلماء في أبحاثهم، وليست هي علاقة أحادية اتجاهية من الأدب تجاه العلم حصرا، كما يتصور كثير. لكن المعرفة العلمية المحتواة من قبل الفنان، لها أثرها عليه كفنان، فهي قد توسع مداركه الإبداعية، وقد تكون أحد روافد أفكاره كغيرها من صنوف المعارف.

إحدى صور شاركو لمرضى الهستيريا

اقرأ المزيد

السبحة

سألنا محررنا صالح الصميت عن ماذا تعني السبحة للعربي وكانت هذه إجابته لم أستعمل السبح إلا في طفولتي، والسبحة الوحيدة التي اقتنيتها كانت سبحة كرستالية اشتريتها بعد أن أعطتني جدتي عيديتي وقالت “لا تعلم أحد”....

اقرأ المزيد

شيئان أو ثلاثة يفتقدهما
المخرج السعودي

لا تخلوا جميع محادثاتي مع الأصدقاء السينمائيين عن طرح سؤال: ما الذي يفتقده المخرج السعودي لِكيْ يتميز ويصنع بصمة سينمائية وأفلامًا جديرة بالمديح النقدي، ويكاد يكون هذا السؤال مطروحًا في جميع المحافل السينمائية محليًا، بل...

اقرأ المزيد

سحر الجرأة الكامن

مغامرة أم جرأة؟ لا أعرف الشخص الذي ترجم مصطلح venture capital إلى “الاستثمار الجريء”. كان بإمكانه اختيار “المغامر”، ولكنه اختار “الجريء”. ولذا أنا ممتن له.    venture capital تعني الاستثمار الذي يُضخ في الشركات الناشئة،...

اقرأ المزيد