أقام المسرحي والممثل جيك برودر، بمساعدة المعهد العالمي لصحة الدماغ “حفل عشاء” أعاد فيه تحضير أطباق يتذكرها بعض المصابين بالخرف في مراحله الأولى ليشاركوا حكاياتهم عنها أمام جمهور من الأصدقاء والموظفين في محاولة لكشف قوة الطعام عليهم. أرسلت تفاصيل العشاء في المقالة النيويوركرية[1] إلى صديقتي متبوعة بـ “لازم لاززم تقرئينه” ولزاياتي أهمية لا تحتمل التأجيل.

تحب صديقتي الطبخ بينما أحب التهامه، وعلى عكس ما تتذكره كلتينا عن أول لقاء، فأعتقد -وبشكل خاص- أن الطعام كان البداية فبدلاً من سؤال “أيش مسويه؟” والرد الذي لا يمت له بصلة، لعلنا تحدثنا عن مطعم حنيذ أو لحم الكنغر في أستراليا، قبل تأكدنا من أننا سنكون صديقتين؛ فكلمة “companion” “الرفيق” مشتقة من اللاتينية بمعنى شريك الخبز[2]؛ لأن اللاتينيين فهموا ما تتطلبه الرفقة.

في زياراتي لبيتها قدمت لي أطباقًا صنعتها أحيانًا من الصفر، كالباستا بالزبدة البنية والمرمية التي لم تنس ذاكرتي كمية البيض على دقيقها. في حالتها؛ لم يكن الطبخ واجبًا ضيافي وإنما لغة في قول أشياء كثيرة، مثل كل مرة قدمت أمي أطباقها بـ: “سويتها لك” أو “أعرف إنك مشتهيتها” كلغة حب سادسة، على أن هذه اللغة لا تنحصر في الطبخ؛ فتذكر الآخر أثناء تناول طبق، وتخبئه صحن يطفح بما يحب، وحفظ اسم مطعم ترافقه إليه، كلها “أحبك وأحبك وأحبك”.

تتوسع لغتنا الطعامية؛ فنواسي بعضنا بفلوتات جالكسي، ونحتفل من أميال بتوصية تطبيق توصيل على كيك أوعلبة شوكلاته ندعو أن تكون لذيذة، ومن غير إدراك نطبق مقولة الإيطاليون العامية parla come magni”[3]” تحدث كما تأكلها أو بوصف إليزابيث جيلبرت “قلها كما تأكلها” أي أبق لغتك بسيطة مثل الطعام الروماني عندما تعجز عن شرح موضوع ما واطرحه مباشرة وبدون تعقيد على الطاولة، لأن غالبًا يجلس في طرفها من يفهمك.

فالطعام فعل مشاركة على السفرة أو الطاولة أو حتى في السيارة، الفعل الذي أدرك برودر قدرته على خلق ذكرى يمكن الاستعانة بها كطريقة علاجية تشابه العلاج بالفن والموسيقى؛ فكانت كل حكاية يحكيها المصابون بالخرف عن أطباقهم، طريقًا لعودة -ولو قصيرة- إلى ذواتهم ولحظة آمنة ومألوفة مع أناس لم يعودوا معهم لكنهم شكلوا ما هم عليه اليوم.

ولو سألني برودر بعد ثمانين عامًا عما سأختاره فلن أكلف عليه باللحم والشحم وإنما سأطلب حلوى غزل البنات، لأحكي له عن مرتي الأولى في تذوقها مع صديقتي ووالدتينا، وكيف عاشت الذكرى أطول مما كانت ستعيشه لو أنها ارتبطت بي وحدي.

 

[1] https://www.newyorker.com/culture/personal-history/the-power-of-food-for-people-with-dementia
[2] https://www.theatlantic.com/family/archive/2021/02/how-our-relationships-affect-what-we-eat/617907/
[3] رواية طعام، صلاة، حب. إليزابيث جيلبرت. (ص108)

اقرأ المزيد

نيو بالانس: التاريخ العاطفي لحذاء رياضي

أصعب سؤال يطرح علي : لماذا ايطاليا؟ لذا أضحك دائماً وأقول إن هذا السؤال من الأسئلة الوجودية التي تصعب اجابتها ! أما المطالبة بالتدوين عن رحلات ايطاليا فلطالما قابلته بالهلع! فكيف لي أن اختصر ايطاليا...

اقرأ المزيد

عادل إمام.. والهومو-ساداتوس

إذا كانت انطلاقة عادل إمام في السبعينات مع مسرحية (مدرسة المشاغبين 1971م)، والتي مثّلت احتجاج الشباب على اهتزاز السلطة الأبويّة، إلا أن بطولته المطلقة تحقّقت....

اقرأ المزيد

شيئان أو ثلاثة يفتقدهما
المخرج السعودي

لا تخلوا جميع محادثاتي مع الأصدقاء السينمائيين عن طرح سؤال: ما الذي يفتقده المخرج السعودي لِكيْ يتميز ويصنع بصمة سينمائية وأفلامًا جديرة بالمديح النقدي، ويكاد يكون هذا السؤال مطروحًا في جميع المحافل السينمائية محليًا، بل...

اقرأ المزيد