تستخدم الأساطير على مر العصور لنقل القيم والمعتقدات لدى ثقافة معينة، فهي متعة كبيرة في أي اجتماع، ومحل نقاش دائم، ولا ينقطع الحديث عن مدى صحتها أو اختلافها من ثقافة لأخرى، فقد تكون سنو وايت مع سبعة من الجن لا الأقزام كما تحاول أختي اقناعي، إلا أن الأساطير في منزلنا لم تكن للتسلية، وإنما للتأديب. اعتدت على الخروج مع جدتي للحوش في كل يوم منذ صغري، وقد تستمر السهرة حتى ساعات متأخرة من الليل، وفي الليالي التي تتضح فيها النجوم، نستلقي أنا وجدتي على سريرها ونتأمل النجوم، وفي اللحظة التي أبدأ فيها بالعد، تنهرني بقوة، تقول:«ترا بتطلع لك ثواليل، كل نجمة تعدينها يطلع لك ثالول، شوفيني» وقد كانت جدتي تعاني من الثآليل، وهذا ما كان يعزز تلك الأسطورة، فجدتي دليل واضح على صدق تلك الأسطورة. أظنها اختارت أن تقول تلك القصة لتسكتني عن العد بجانب رأسها، فهي تتأمل النجوم بينما يوجد رأس آخر بجانبها يعد شيئًا غير منتهي، مع لعاب يطير في الأرجاء، وصوت حاد. وقد كنت أعدها سرًا لوحدي، فضولًا وتحديًا. في المرات الأولى كنت أعدها بصمت، ولأنني لم أصب بأي ثألول قررت عدها بصوت، وكنت أعدها بالإشارة إليها ولم يقتصر عدي فقط على النظر. وإن كانت هذه الأسطورة بلا معنى، فأنا أمتلك الآن ثؤلولين في يدي التي كنت أشير بها إلى النجوم.  

في كتابي «بيت ذو ست عائلات» كتبت قصة بركة بناء على الأسطورة التي تناوب جداي على إضافة التفاصيل إليها. نمتلك في منتصف فناء منزل جدي بركتين، وأقصد بالبركة خزان ماء أرضي، البركة الأولى للماء الصالح للشرب أو كما تقول جدتي الماء الحلو، والثانية للماء العادي أو كما تقول له أيضًا المر. يخبرني جدي أن لمسي لماء البركة يجعلني أغرق فيها، ولأننا نفتحها بشكل مستمر لتعبئتها، تجعلني تلك الأسطورة أبتعد مئات الأمتار عنها، فلا فضول يجعلني أقترب، ولا تحدي. تزيد جدتي على أسطورة جدي ولا أتذكر تفاصيلها تمامًا، إلا أنها تقول بأن بركتنا أو بركة منزل عائلتها مسبقًا قد غرقت فيها فتاة، وأنها اختفت ولم يجدوها إلا بعد رؤية شعرها في قاع البركة. وبأسطورة مرعبة كهذه، أظنني لم أتعلم السباحة بسبب خوفي من غرقي وإيجادي من شعري في أسفل الماء.  

تزداد أساطير المياه، وتتطور، إلى أن تحولت إلى أسطورة غريبة، وقريبة إلى قصص ديزني منها إلى أسطورة للتأديب. ومهد هذا التحول لم تكن جدتي بالطبع، ولو كانت جدتي لتحولت الأسطورة إلى شيء أكثر إرعابًا من سابقه، إلا أن وحش الماء كان من تأليف عمتي. تعتمد الأساطير على الأسماء الرنانة، أو على الأقل على الحبكة والبناء، إلا أن أبناء عمتي كانوا يخافون من مجرد ذكر وحش الماء، هكذا بدون أية إضافات، تقول عمتي مهددة أولادها: «إن ما سكتوا بيجي وحش الماء من الدريشة» وبدون أي تأثيرات خارجية، أو بناء قصصي، أو حتى وصفي، يهدأ الجميع، ويغلقون النوافذ، ولعل بساطة هذا التهديد هو ما جعلهم يتعلمون السباحة، على العكس مني.  

في الليالي التي لا ينفع فيها أي تهديد، تجمعنا جدتي لسماع قصة -مريم بنت الفتى- وأعتقد بأن قائل الأسطورة أنفق كل خلاياه الإبداعية في بناء القصة، ولم تتبقَ له خليه إبداع وحيدة لاختراع اسم أكثر مناسبة من هذا. تسكن مريم بنت الفتى وحيدة بعد وفاة والديها، وفي البيت المجاور لها يعيش ثلاثة رجال مع والدتهم العجوز، لم تتردد تلك العجوز من مساعدة مريم، وأصبحت بمثابة أم مريم الثانية. وفي إحدى الليالي، طلبت الجارة من مريم أن تزورها في منزلها لتمضي بعض الوقت معها، لتستأنسان ببعضهما البعض، رفضت مريم بالبداية، إلا أن إلحاح العجوز لم يدع لمريم مجالًا للرفض، لكن مريم اشترطت ألا تحضر إن لم يغادر الشباب الثلاثة، ووافقت العجوز بسرور. حضرت مريم لمنزل العجوز، تبادلتا الأحاديث وشربتا القهوة حتى حان وقت العشاء، وطلبت العجوز من مريم أن تساعدها على إعداد العشاء لأبنائها، فوافقت مريم على ذلك، وبينما كانت مريم في المطبخ، استأذنتها العجوز للذهاب إلى المجلس لإحضار بعض الأغراض. ولم يكن المجلس خاليًا بالطبع، فكان الرجال الثلاثة ينتظرون بصبر، أخبرتهم العجوز أن الفرج قريب، وأن مريم ستدخل عليهم مع العشاء بعد دقائق، وحينها ستقفل هي الباب من خلف مريم. والذي لم تحسب العجوز له حسابًا، أن مريم تبعتها للمجلس، وعرفت الخطة كاملة.  

حملت مريم صحن الأرز المعدني، وفوقه قطعة كبيرة من اللحم، دخلت المجلس، وتفاجأ الرجال بدخولها وحدها بدون والدتهم، وضعت الصحن على الأرض ودعتهم لتناول العشاء، ارتاب الرجال، وانتظروا والدتهم لتقوم بدورها، إلا أن مريم قالت:«تنتظرون أمكم؟ هذاها على الصحن، كولوها.» لم تكن النهاية بتلك الكلمات بالتحديد، فالكلمات الحقيقية في القصة لا تصح للنشر. لا أعلم لما لم تعارض أمهاتنا على القصة، فهي مرعبة على عدة أوجه، ولا فيها فائدة مرجوة، ولا متعة محققة، ففي المرة الأولى التي سمعتها فيها لم أستطع النوم لعدة أيام، في اللحظة التي أغلق فيها عيني أتخيل العجوزة في القدر العملاق، تتربع في أسفله، بجلد ذائب وشعر يطفو كالفتاة التي غرقت في البركة. 

بمرور السنوات، أصبحت أتبادل مع جدتي الدور في رواية القصة، وفي اللحظة التي تبدأ فيها بسرد النهاية، أهرع لتغييرها. كثيرة هي الأساطير، ولعل كثرتها سبب حرص جدتي على عدم استخدام الضرب كعقاب، فهي تستخدم التخويف كآداة للتأديب، وقد تستخدم الفقس أيضًا كآداة للتأديب، والذي يجعلني أتمنى أن تقص علينا قصة الذئب المتحول بدلًا من أن تضع الفقس في عيني. وبالمناسبة، لم أجرب الفقس في عيني أبدًا، ولعل هذا دليل على نجاح القصص في تقويم سلوكي.

اقرأ المزيد

دولاب القراشيع اللانهائي ∞

على يمين باب المطبخ، في الجزء الأول من دولاب المطبخ الرمادي، يقع دولاب “الحوسة” كما تسميه والدتي. فلا يوجد تصنيف خاص به، كونه يحتوي على كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته؛ كوننا لا نجد...

اقرأ المزيد

الـــــعالم المـــــجنون

ربما لن تكون مصادفة لو قلنا لكم أن أول عدو في أول فيلم أنيميشن مصوّر لسوبرمان، هو عالمٌ مجنون، يريد تدمير الأرض، دون سبب واضح. بالنسبة لنا، هذه الصورة تطبّعت للدرجة التي لا نلاحظ غرابتها،...

اقرأ المزيد

أن تكون صحفيًـــا للسينمـــا

كانت أغرب سيرة ذاتية كتبتها في حياتي، كتبت برنامجي اليومي، وقراءاتي اليومية، وما أتابعه ومالا أتابعه، والكتّاب الذين أقرأ لهم والذين أخطط للقراءة لهم، حتى أنني أشرت للحفلات الغنائية التي أحضرها، وأرفقت بعض التدوينات البسيطة...

اقرأ المزيد