مغامرة أم جرأة؟

لا أعرف الشخص الذي ترجم مصطلح venture capital إلى “الاستثمار الجريء”. كان بإمكانه اختيار “المغامر”، ولكنه اختار “الجريء”. ولذا أنا ممتن له. 

 

venture capital تعني الاستثمار الذي يُضخ في الشركات الناشئة، عالية المخاطرة. فهو مغامرة، ولكنّ استخدام كلمة “جريء” أكثرُ دقة. لأن المغامرة أكثرُ شخصيةً، أكثر ذاتيةً، إنها المفردة التي تطرأ عليك حينما تفكر في السفر إلى كولومبيا أو فتح حساب في منصة “إكس” أو خوض حوار مع شخص يفضل القهوة على الشاهي. بينما الجرأة قرار، نابع من شخصيتك، أو من حالتك. إنها نتاج تفكير أدى إليه “موقف”، بل وربما “مبدأ”. 

 

إنه كامن في داخلك.


ما الذي نتحدث عنه حينما نتحدث عن الجرأة

 

أنا محرر صحفي وإبداعي. هذه وظيفتي، تقريبًا. كنت أحرر كتابات الناس، وترقيت لأحرر توقعاتهم، ومشاريعهم، وعملهم. وأكثر كلمة تستفزني هي “الجرأة”، لا ينافسها في ذلك إلا كلمة “عمق”، لأنهما أكثر الكلمات التي تستخدم بمجانية ومحدودية في عملية الإبداع، وهذه المجانية والمحدودية تحجّمهما. 

 

حينما تقرأ وصفًا لعمل إبداعي بالجريء، تتخيل مباشرة قضايا حساسة وفقًا للمجتمع الذي تعيش فيه، تتعلق غالبًا بالدين أو السياسة أو الجندرية أو الجنس أو الأعراف والتقاليد. 

 

هذه هي الجرأة التي تعرفها هذه المفردة في معظم استخداماتنا لها في سياق الإبداع. 

 

بالنسبة لي، مفردة جرأة في الإبداع لا تعني أيًا من ذلك، حتى وإن شملته. وإنما هي تعني الجرأة على عدم الانسياق وراء الأنماط، لأن هذا هو المعنى الأكبر، الذي يشمل كل شيء آخر تحته. 

 

بالإمكان سرد أمثلةٍ كثيرة. من شعر المولدين في العصر الأموي حينما رفض أبو نواس الاستفتاح بالبكاء على الأطلال، ولم يكن رفضًا نابعًا عن عداء لما هو قديم بقدر ما كان نابعًا عن أسلوب، لأن هذا الطقس التقليدي يناقض مزاج هذا العصر وسيحطّم بحضوره جماليات القصيدة الموضوعية والشكلية. مرورًا بأدب الرومانتيكية الألماني حينما شعرن غوته الألم إلى حد الجمال والتوق، وجعله حقيقيًا واقعيًا وشاعريًا متعاليًا في الوقت ذاته حتى بدا أدبًا جديدًا ومؤثرا دفع بكثير من الشباب نحو الانتحار. إلى الواقعية القذرة في الثقافة الأمريكية (أدبا، وصحافةً، وسينما)، التي جرّت الإبداع إلى مناطق بعيدة في الواقع والتجربة، حينما أخذت من الحياة واقعيةَ الشكل ومن الخيال مَسرحةَ المشاعر والشخصيات. ونهايةً بصناعة المحتوى وثنائية تأثرها وتأثيرها على الفنون البصرية، التي ما زلنا نكتشفها حتى هذه اللحظة. جميعها تكسر التابوهات والتقاليد والممنوعات والمحظورات والمسكوت عنه، صحيح، ولكن قوتها الحقيقية لا تترسخ ثقافيًا وتاريخيًا من ذلك، وإنما من كونها جرأة “أساليب” و”أمزجة” قائمة بحد ذاتها. 

 

ديفيد لورانس في الأدب الإنجليزي لا يُقرأ الآن لأنه كتب أدبًا جنسيًا جريئًا، فأدبه – منذ نصف قرن تقريبا – يعدّ متحفظًا مقارنة بانفتاح الثقافة الجنسية التي نعيش فيها، ولكنه يُذكر لأنه كتب أدبًا يتعاطى مع الجنس بطريقة مختلفة فريدة من نوعها، أيًّا كان موقفك الذوقي منها. وكياروستامي، الإيراني الليبرالي الذي بزغ في أوج السيطرة الخمينية الدينية، لا يُرى لأن فنه سياسي يعكس موقفًا أخلاقيًا، ولكن لأنه جمالي يبتكر في أسلوب السينما ما صار معيارًا لمفهوم الواقعية والشعر. والشيء ذاته يقال عن الإلياذة في الأدب اليوناني، وعن المولّدين في الشعر العربي، وعن هنتر طومبسون في الصحافة الأمريكية، وعن غودار في السينما. 

 

إنها أعمال عظيمة ليس لأنها وثيقة تاريخية متصنّمة، ولكن لأنها عظيمة في ذاتها، في فرادةِ جرأتها الأسلوبية ومحدوديةِ مهادنتها وتكرارها، التي تجعلها خالدة. 

 

فكيف تسنى لها ذلك؟

 

المحيط الأزرق

 

كنا في استراحة شباب، عام 2009، وكان عمري حينها 24 عاما. لم ينتشر الآيفون بعد، اشتريته لأنه يساعدني في عملي وعرضته على رواد المكان الذين لم يجربوه من قبل. 

 

الاستراحة، خصوصا في العقد الأول من الألفية، هي مكان غير واقعي. يعيش السعودي، والرياضيّ تحديدا في الواقع، بيته ودوامه وشارعه، وفق معايير صارمة تجعله أكثر ترددًا وربما حذرًا. ثم يأتي إلى الاستراحة ليعيش عالمًا مختلفًا أكثر انفتاحًا، حيث يكون محللًا سياسيًا وكرويًا، وخبير أرصاد، ومقيّم جماليات وموضات نسائية، وناقد شعر شعبي وفصيح، ومتخصصًا تقنيًا، وسمكريًا، وخبير لهجات، وفيلسوفًا، وتخصصات أخرى. 

 

أيّ شخص يسأل: “وش مصدر هالكلام؟”، أو “السالفة صدق؟”، أو “عطني إثبات”، يُدان ويحاكم ويقصى فورًا. هذا ليس مكانًا يُبحث فيه عن الحقيقة. 

 

أحدهم كان صديقي صامل، الذي لن تنسى اسمه المميز حتى لو نسيت وجهه. حينما تفحّص الآيفون، بدا مذهولًا ثم صرح: “هذا اللي كنت أبيه من زمان”. 

 

صامل يكذب. أو لنكن أكثر تفهمًا، ونقول إنه يتوهم. وهي حالة مألوفة مع الاكتشافات الجديدة. 

 

المحيط الأزرق هي نظرية استراتيجية، تقول إن هنالك منتجات تستهدف مناطق جديدة للغاية، وغير مطروقة، مثل محيط يُرى من الأعلى أزرقًا لأنه خال من السفن. هذا المنتج هو أول سفينة تعبره. 

 

هذا النوع من المنتجات، يحقق احتياجًا شديد الحساسية: أن يكون مألوفًا بما فيه الكفاية لأنه يحقق قيمة لك تستطيع فهمها الآن رغم أنها لو سبقت عصرها فلن تفهمها، ولكنه في الوقت ذاته غير مسبوق لدرجة أنه يبدو جديدًا للغاية ومثيرًا ومستحوذًا على انتباهك. 

 

هذه منطقة دقيقة وغامضة. الشيء الذي كنت تظن أنك تريده طوال حياتك (وش الإثبات يا صامل إنك فكرت فيه؟ الإثبات إنك تسكت وإلا بنطردك)، رغم أنه لم يطرأ عليك من قبل (نوكيا ممتاز، أحسن جوال، شفه ثقيل لو يطيح ما ينكسر، ما نحتاج غيره). الشيء الذي يبدو مستعصياً فهمُ ما قبله (يبه وش ذا الجوال الغريب؟ نوك إيش؟!)، ويبدو أكثر استعصاءً فهمُ ما بعده (جايب لي بروجكتر وتسوقها علي؟! أنا أبي جوال أمسكه في يدي). 

 

الإبداع، والمعرفة عمومًا، هو من أعظم السفن التي تعبر المحيطات الزرقاء. لأنه مهيأ للخلود، لا يزول بزوال الحاجة إليه، أو ابتكار ما يفوقه جِدّة واحتياجا. رثاء المتنبي لجدته ورواية دون كيخوته وأفلام جون فورد القديمة ولوحات رامبرانت لن تختفي كما اختفى النوكيا. الثقافات العظيمة بجميع مؤسساتها لا تستمر بفضل مواكبتها الآنية فحسب، فاليومَ سيكون أمساً في الغد، وما يمثل الموضة سيكون عتيقا بعد حين. ولكنها تستمر لأنها تتحول إلى ملكيات فكرية لا تتقادم مع مرور الزمن، وتخلق في كل عصر جمهورا جديدا يتلقاها كما هي أو يعيد تدويرها بما يناسبه. إنها سفن عبرت محيطات زرقاء، وستظل تعبر، إلى أن نفقد الذاكرة. وبدون الدخول في تنظيرات هارولد بلوم وروبرتو كالاسو، أستطيع القول إن هذا هو الذي يجعلها أكثر من مجرد وثيقة تاريخية. 

 

ولكن، رغم هذه الشعرنة المتحمسة، إلا أن مرور هذه السفن في تلك المحيطات المجهولة، أمر بالغ الصعوبة. لأن مرورها يتطلب إما نحتًا جديدًا ليس له مماثلٌ أو إعادةَ تشكيل ما هو موجود وراسخ، كما أنها عمليًا وماليًا تعاكس تيارات كثيرة مناقضة تكون ناجحة وأكثر أمانا منها. 

 

فمتى تحين؟ ومتى نعرف؟ 

 

لقد أُعيد اكتشاف ألف ليلة وليلة بعد قرون غامضة من كتابتها. ومات كافكا ولم يُعرف كما هو الآن. وفاز جون كيندي تول بالبوليتزر بعد 12 سنة من انتحاره مجهولاً. 

 

البيضة والدجاجة

 

الحراكات الكبرى لا تكتشف المحيطات الزرقاء بالتراضي. هي دائما مخاض، ولادة متعسرة لوريث يريد أن يكون هو التالي، ولا سبيل لمنعه إلا بإجهاضه، ولا يمكن إجهاضه إلا في مناخ سيء يسمح بذلك. 

 

الإبداع (سينما، أدب، صحافة، محتوى) عمل مؤسسي، في غالب الأحيان. ينشأ كابتكار، ثم تُسيطِر عليه نُخب، ثم يُضمَّن داخل مؤسسةٍ ما، أحيانا تكون رسمية، وأحيانا أخرى تكون ذوقية/اجتماعية. ورويدًا، يتحول الإبداع إلى ترسيخ مساراتِ ذلك الابتكار الأول، بتكرارٍ يحاول خداعك عبر تغيير مظهره بين حين وآخر، دون أن يتغير فعلا. 

 

يمكن تقسيم هوليوود، مثلا، إلى عدة حراكات. كل واحد منها، عُدّ بطريقة أو بأخرى خارجًا عن الملّة الإبداعية التقليدية. ليس لأنه كان جريئًا في مواضيعه، ولكن في أساليبه. 

 

أفلام العصابات موجودة منذ الثلاثينيات الميلادية، بكل عنفها وصخبها وثنائية خيرها وشرها. الذي غيّره فيلم مثل mean street لمارتن سكورسيزي – الذي كان معجبا بأفلام تلك الحقبة وتأثر بها – أنه أراد أن ينقل نوع هذه الأفلام من العالم المُمَسرح إلى العالم الواقعي. 

 

لذا: أولاً، يجب أن تصور هذه الأفلام في الخارج، في أماكن حقيقية. ثانيًا، الشخصيات يجب أن تكون أكثر واقعية، بمظهرها، وكلامها، وتعقيداتها، وسياقاتها. ثالثًا، الحالة الثقافية للفيلم يجب أن تعكس الشارع، أي أننا يجب أن نرى السياقات الثقافية التي أنتجت هذه الشخصيات وهذه الأحداث، يجب أن نرى السياسة والمجتمع والسيكولوجيا والاقتصاد والفن الذي تعيش فيه هذه الشخصيات لتكون واقعية، وتبتعد عن كونها مجرد بيادق في قصة أنتجها استوديو يريد تحقيق ربح مالي عبر مخاطبة المشاهد بما اعتاد عليه.

لقد بدا الفيلم جديدًا، ومثيرًا، ضمن حراك من أفلام أخرى تشبهه. لأنه يقول ما قيل من قبل، ولكن بأسلوب مختلف، لا يشبه من سبقوه. 

 

ولكنه، مثل أفلام الموجة الفرنسية من قبله، لم يخرج من فراغ. بل هو نتاج لحراك أمريكي كبير في ذلك الوقت. حراك شمل الأدب والصحافة والإعلام. وهذا الحراك تكوّن لأن أجيالًا جديدة نشأت في الخمسينات والستينات الميلادية، ترى الحياة وتعيشها بطريقة مختلفة، وتريد من السينما والأدب والصحافة والإعلام أن تعكس هذه المتغيرات الذوقية والجمالية. أجيال ستتفاعل مع مارلون بارندو الواقعي الأسلوبي أكثر من جيمس كاغني المسرحي الأوركسترالي. أجيال ستتفاعل مع اللقطات الواقعية المكبوحة أكثر من اللقطات الممسرحة بالانفعالات والدراما. 


ولذا فإن الحراك لا يُختلق، لأن المؤسسة الإبداعية في الغالب تكون متصنمة، ولكنه ينشأ من مخاض متغيرات كبرى، نعيشها، ونريد أن نعكسها. 

 

ومتى ما حدث هذا التغير، سيحدث هذا الحراك. وسيكون حتمًا صداميًا وجريئًا لأنه يكسر قوالب قديمة – وإن كان يستفيد منها ويبني عليها ويتأثر بها ويعترف بفضلها – ليرسخ قوالب جديدة. ولا يمكن إيقافه إلا بإجهاضه، ولا يمكن إجهاضه إلا في مناخ سيء يسمح بذلك. 

 

ولكن نحن، أين نحن الآن؟


السعودية الجديدة


في منتصف 2016، حسبما أذكر، عرض عليّ أحد الأصدقاء إحدى النسخ الأولية لمشروع “التحول الوطني”، الذي سَبَق رؤية 2030. 

 

كنا نجلس في أحد المقاهي. أعمل أنا في الصحافة، ويعمل هو في المشروع. وكانت تلك النسخة قد نشرت تلك الليلة، أو أنها ما زالت تُتداول مبدئيا لأغراض استشارية أو تشاورية، لست متأكدًا.

 

 

قرأت عشرات من الاستراتيجيات والخطط الحكومية، كثير منها مستفيض وتفصيلي. ولكن تلك الوثيقة لم تكن تشبه شيئًا مما قرأته. كل شيء فيها مختلف. من الموقف الاستراتيجي إلى اللغة المستخدمة. تلك الوثيقة صنيعةٌ جديدة. 

 

 

أغلقت الملف، ولا أذكر ما الذي قلته، ولكنني حتمًا كنت متشككًا ومتحفزًا في الوقت ذاته. الوعود دائمةٌ ومتكررة، ولكن هذه المرة تبدو مختلفة. “نشوف”. 

 

 

مهنتي الصحفية كانت تتقاطع يوميًا مع الأخبار. أعرف ما الذي يحدث في المجتمع والحكومة أكثر مما يحدث في عائلتي. ومع مرور كل شهر، بدأت أشياء بالتغير. أشياء صغيرة، ثم أكبر، ثم تسارعت الوتيرة، حتى شملت تغيرات في المواقف الاستراتيجية ولغة الخطاب والتواصل. 

 

 

تلك السنوات كانت حافلة بالتشريعات، والقرارات المفصلية، والمواقف المتجددة. 

 

 

السنوات التي أمضينا أسابيع في إحداها نتابع إباحة الكلباني للغناء كأهم خبر في ذلك الشهر، بدت بعيدة للغاية.

 

 

سقف التوقعات ارتفع. وارتفعت معه حدةُ كل شيء. كل شيء محتمل، لا شيء خارج حدود الممكن. الخطوات التي كنا نظنها مستحيلة، نُفذت فجأة أحيانًا وتدريجيًا في أحيان أخرى. التشريعات التي كان معلقة أو لا وجود لها، ظلت تُستحدث أو تنجَز. لغة الخطاب لم تعد كما كانت، والتجريب صار سِمةً للاستكشاف، حتى لو أدّى إلى الفشل، والوتيرةُ سريعة ومندفعة إلى حدِّ أنها ستتجاوز المتريثين أو المتحفظين. ومع هذا كله نشأت حساسيةٌ جديدة في المشهد، درجةُ حرارة يجب أن تُقاس في كل مرة، لأنها تتغير دائما، ولا مكان لمن لا يستطيع قياسها. 

 

 

سيقرأ المقال أشخاص من أمكنة مختلفة، ومرجعيات سياسية وفلسفية مختلفة. لن يتّحدوا في الموقف ذاته، وسيقرؤون ما حدث من زاوية موقفهم وما يرونه أساسيًا. ولكن أيا كان هذا الموقف، فإن الجرأة التي دفعت بتلك السنوات إلى الأمام كانت نادرة. لذا، لو أردتُ اختيار مفردة تشرح السعودية الجديدة، فهي الجرأة: يجب أن تُعاد صياغة القصة السعودية، على مكتسبات الماضي ولكن بسردية جديدة، وحدودٍ تتوسع أو تضيق، وتجاربٍ تُعتمد أو تُلغى، واحتمالاتٍ تتزايد أو تتقلص، كل هذا حسب الحاجة والمتغيرات، وكل هذا سيتحرك باندفاع لا هوادة فيه. 

 

 

ستظل هنالك خطوط حمراء، مناطق رمادية، تزيد أو تقل، ومعارك يجب ألا تخوضها جميعا وأن تختار منها ما يناسب وما لا يناسب، كما هي الحال في أي حقبة تاريخية أو واقعٍ حاليّ. ولكن، في العموم: لا شيء ثابت، كل شيء متحرك دائما. الحقبة المقبلة، بحسب المعطيات، يجب أن تحفل باستقلالية سياسية واقتصادية أكبر، ويجب أن يرافقها استحداث ثقافي ومعرفي يأخذ من الماضي ولكن دون أن يستنسخه، وفق حساسية سياسية جديدة. وأي شيء سيقف في طريق ذلك، سيكون معرّضا للخطر.

 

 

لماذا الجرأة؟

 

 

طبيعتنا أن نتساءل، وطبيعة الحياة ألا تجيب. هذه ديناميكية علاقتنا. ولهذا وُجدت المعرفة بكافة أشكالها التلقينية والإبداعية، التي تطارد الحقيقة التي ربما تكون متغيرة ومراوغة أو غير موجودة أصلا. وإلى حد هذه اللحظة، فقد فشلت. المعرفة هي تاريخ الفشل. كل إجابة استخلصتها أتت بمئات الأسئلة الجديدة. تحل مشكلة عبر خلق مئات المشاكل الأخرى. وتعثر على حقيقة لتستبدلها بأخرى. 

 

 

ولكنها نبيلة، لأنها فشلٌ أثناء الحركة التي ترفض الجمود والرضوخ. 

 

 

لا أحد يملك جسده، لقد مُنح إليك، وقد يُؤخذ منك فلا يبقى منه إلا عينٌ واحدة مربوطة بجهاز استشعار. لا أحد يختار عائلته، لقد وُلدت بينهم، وستنفكّ عنهم. لا أحد يملك نشأته، لقد وُجدت فيها، وستكبر عنها. لا أحد يملك أشياءه وأناسه، لقد اخترتها، وقد تُنزع منك.

 

 

أنت حالة بيولوجية متجددة دائمة الحركة. الدم، الخلايا، الأنسجة، العظام، الأعصاب، الأعضاء. كل شيء فيك يتجدد باستمرار. تنام إلى ميتة صغرى، وتصحو إلى يقظة صغرى. وبين طرفة عين وانتباهتها، قد تفقد كل شيء. 

 

 

كل ما تملكه هو اللحظة التي أنت فيها الآن. وهي مثلك، دائمة الحركة والتجدد. 

 

 

هذا القدْر من السرعة، والموت والحياة، لا يمكن أن يتثاقل، أو أن يتكاسل، أو أن يتردد. كل شيء متغير، كل شيء متحرك دائما. لا يمكن أن يورَّث. وأسوء حقب التاريخ ثقافيا، هي الموروثة التي اكتفت بما ورثته، تسير على ابتكارات وعبقريات من سبقوهم، الخطوةَ بالخطوة والموقفَ بالموقف. لأنها تناقض الحياة، وتناقض التوق الأصيل المرضي إلى الحقيقة التي ربما تكون متغيرة دائما أو غير موجودة اصلا، والتي يجب على كل حقبة أن تفشل في السعي إليها، كما فشلت كل الحقب من قبلها. 

 

 

الإبداع، أدبا وفنا ومحتوى، من أهم أشكال المعرفة، لأنه الأكثر شخصيةً، الأكثر ألفة، الأكثر مواجهةً. إن عنده قدرة سحرية على أن يخرجك من حياتك ليُريك إياها من الأعلى، أن ترى نفسك من الأعلى، وأن تختبرها، وأن ترى أفراحك وأحزانك ونجاحاتك وخيباتك ورتابتك ومتعتك خارج سرعة حياتك المحمومة. إنه لذة تطهيرية غير تلقينية، توازي تمايز الرعب واللذة التي ستجدها لو أن روحك خرجت من بين أضلعك وجلست بجانبك لتواجهك وتصارحك. ولذا لا يصحّ أن يتثاقل، لا يصحّ أن يتكاسل أو أن يتردد، لا يصحُّ أن يورَّث. يجب أن يماثلك، وأن يكون على قدر سرعتك. وكلما أسرعت، كلما وجب عليه أن يسرع. ولن يكون ذلك إلا بأن يكون جريئا واندفاعيا بقدر جرأتك واندفاعك. 

 

 

ولذا فإن أعظم عصور الإبداع، هي أعظم عصور الحياة. العصور التي كانت الحياة فيها ممتلئةً، دائمةَ الحركة، دائمةَ التجدد، عنيفة واندفاعية وتجريبية. 

 

 

هامش: 

 

 

عنوان المقالة: فيلم فرنسي كتبه وأخرجه الإسباني لوي بونويل، أحد أهم الفنانين على الإطلاق، اسمه “سحر البرجوازية الكامنLe Charme discret de la bourgeoisie “. 

 

 

مصطلح Le Charme discret بالفرنسية يعني الفتنة أو السحر الذي يحيط بشيء ما، لكن بشكل مكنون وخفي، وكأنه طبيعة كامنة في ذلك الشيء، لا يظهر جليًا وصاخبًا. 

 

 

إنه مثل حلاوة أسلوب شخص يجيد الحديث مع الآخرين. أو ملاحة وجهٍ ليس جميلاً جمالاً واضحًا وصارخاً. إنه سحر كامن لا يمكن أن يُدّعى أو يزيّف، حقيقي إلى درجة أن كنههُ خفيٌ لا يكاد يُمسك. 

 

 

وبالتالي، فإن المصطلح يُستخدم أيضًا في سياق ساخر، حينما يُظهر شخصٌ سلوكًا صارخًا أبعد ما يكون عن هذا السحر الكامن، كأن يكون مدّعيًا، أو استعراضيًا، أو مبتذلاً. فتقال هذه الجملة بسخرية وكأنها تعزز ما يفقده. 

 

اقرأ المزيد

بودكاست Heavyweight: العلاج النفسي خارج العيادة

من بداهة القول أن نعدّ مفهوم «الفنان» حديثًا في نشأته، لكن الذي يغيب عنّا عادةً، أن هذا المفهوم كان تتويجًا لتكريس صورة الفنان بشخص منعزل في صومعته التأملية متعاليًًا عن «عامة» الناس وحيواتهم اليومية. إن...

اقرأ المزيد

دولاب القراشيع اللانهائي ∞

على يمين باب المطبخ، في الجزء الأول من دولاب المطبخ الرمادي، يقع دولاب “الحوسة” كما تسميه والدتي. فلا يوجد تصنيف خاص به، كونه يحتوي على كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته؛ كوننا لا نجد...

اقرأ المزيد

كيف تستعمل جدتي الأساطير؟

تستخدم الأساطير على مر العصور لنقل القيم والمعتقدات لدى ثقافة معينة، فهي متعة كبيرة في أي اجتماع، ومحل نقاش دائم، ولا ينقطع...

اقرأ المزيد