اعلم رحمك الله، أن الصورة لا تفيد حتى تؤلَّف ضربًا خاصًا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه من التركيب والترتيب.

 

وتركيب الصورة قائم على المجاورة. وازدياد الحسن فيها بأن يجامع شكل منها شكلاً، وأن يصل الذكر بين متدانيات في ولادة العقول إياها، ومتجاورات في تنزيل الأفهام لها.

 

فإذا رأيت البصير بجواهر الصورة يستحسن مشهدًا أو يستجيد تركيبًا لصورة، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس يُنبئك عن أحوال ترجع إلى براعة الصورة، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده.

 

وما شرفت صنعة، ولا ذُكر بالفضيلة عمل، إلا لأنهما يحتاجان من دقة الفكر ولطف النظر ونفاذ الخاطر، إلى ما لا يحتاج إليه غيرهما، ويحتكمان على من زاولهما والطالب لهما من هذا المعنى، ما لا يحتكم ما عداهما، ولا يقتضيان ذلك إلا من جهة إيجاد الائتلاف في المختلفات.


 

 

وذلك بيّن لك فيما تراه من الصناعات وسائر الأعمال التي تنسب إلى الدقة، فإنك تجد الصورة المعمولة فيها، كلما كانت أجزاؤها أشد اختلافا في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك أتم، والائتلاف أبين، كان شأنها أعجب، والحذق لمصورها أعجب.

واعلم أن بعض الصنّاع من يتعسف المعاني، ويخدعك بالتزويق، ويذهب في نحو من تركيب الصورة لا يهتدي “النحو” إلى إصلاحه، وإغراب في الترتيب يعمى “الإعراب” في طريقه، ويضل في تعريفه.

 

وبعض الأفلام تشعر أنه لا يراد منها إلا الاحتفال في الصنعة، والدلالة على مقدار شوط القريحة، والإخبار عن فضل القوة، والاقتدار على التفنن في الصفة. وأخرى لا تنجلي لك إلا بعد أن تحوجك إلى طلبها بالفكرة وتحريك الخاطر لها والهمة في طلبها. ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف.

وأما التعقيد، فإنما كان مذمومًا لأجل أن التركيب لم يرتب الترتيب الذي بمثله تحصل الدلالة على الغرض، حتى احتاج الرائي إلى أن يطلب المعنى بالحيلة، ويسعى إليه من غير الطريق. وإنما ذم هذا الجنس، لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكدَّك بسوء الدلالة، وأودع لك في قالب غير مستو ولا مُمَلَّس، بل خشن مُضرّس، حتى إذا رمت إخراجه منه عَسُر عليك، وإذا خرجَ خرجَ مشوه الصورة ناقص الحسن. ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك، ثم لا يُجدى عليك، ويؤرقك ثم لا يورق لك.


 

من فيلم: The Grand Budapest Hotel

 

هذا والمعقد من الصوّر لم يذم لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر على الجملة، بل لأن صاحبه يُعْثِر فكرك في متصرفه، ويشيك طريقك إلى المعنى، ويوعر مذهبك نحوه، بل ربما قسم فكرك، وشعَّب ظنك، حتى لا تدري من أين تتوصل وكيف تطلب.

واعلم رحمك الله أن أجمل الأداء، ما وقع من غير قصد من الممثل إلى اجتلابه، وتأهب لطلبه. وإن أنس النفوس موقوف على أن تخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريح بعد مكنى، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيء آخر هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم، نحو أن تنقلها عن العقل إلى الإحساس، وعما يعلم بالفكر إلى ما يعلم بالاضطرار والطبع، لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة، يَفضلُ المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام. والشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان بالشغف منها أجدر.

 

واعلم أن المشهد يشبه الجملة الوافية، والجملة أبدًا أسبق إلى النفوس من التفصيل، وأنك تجد الرؤية نفسها لا تصل بالبديهة إلى التفصيل، ولكنك ترى بالنظر الأول الوصف على الجملة، ثم ترى التفصيل عند إعادة النظر. وبإدراك التفصيل يقع التفاضل بين راءٍ وراء، وسامعٍ وسامع، وهكذا.

 

فأما الجُمل فتستوى فيها الأقدام. ثم تعلم أنك في إدراك تفصيل ما تراه وتسمعه أو تذوقه، كمن ينتقي الشيء من بين جُمله، وكمن يميز الشيء مما قد اختلط به، فإنك حين لا يهمك التفصيل، كمن يأخذ الشيء جزافًا وجرفًا.

 

وإذا كانت هذه العبرة ثابتة في المشاهدة وما يجري مجراها مما تناله الحاسة، فالأمر في القلب كذلك: تجد الجُمل أبدا هي التي تسبق إلى الأوهام وتقع في الخاطر أولا، وتجد التفاصيل مغمورة فيما بينها، وتراها لا تحضر إلا بعد إعمال للروية واستعانة بالتذكر.

 

وهل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها حتى أن فضل تلك الحسنة يبقى لتلك اللفظة لو ذكرت على الانفراد، وأزيلت عن موقعها، وحتى تكون في ذلك كالجوهرة التي هي، وإن ازدادت حسنا بمصاحبة أخواتها، واكتست بهاء بمضامة أترابها، فإنها إذا جليت للعين فردة، وتركت في الخيط فذة، لم تعدم الفضيلة الذاتية، والبهجة التي هي في نفسها مطوية، والشذرة من الذهب تراها بصحبة الجواهر لها في القلادة، واكتنافها لها في عنق الغادة، ووصلها بريق جمرتها والتهاب جوهرها، بأنوار تلك الدرر التي تجاورها، ولألاء اللآلئ التي تناظرها تزداد جمالا في العين، ولطف موقع من حقيقة الزين. ثم هي إن حرمت صحبة تلك العقائل، وفرق الدهر الخؤون بينها وبين هاتيك النفائس، لم تعر من بهجتها الأصلية، ولم تذهب عنها فضيلة الذهبية.

 

وطريق التأول للصور المتجاورة يتفاوت تفاوتا شديدا، فمنه ما يقرب مأخذه ويسهل الوصول إليه، ويعطى المقاد طوعا، ومنه ما يحتاج فيه إلى قدر من التأمل، ومنه ما يدق ويغمض حتى يحتاج في استخراجه إلى فضل روية ولطف فكرة. ويتفاوت الحال في الحاجة إلى الفكر بحسب مكان الوصف ومرتبته من حد الجملة وحد التفصيل، وكلما كان أوغل في التفصيل، كانت الحاجة إلى التوقف والتذكر أكثر، والفقر إلى التأمل والتمهل أشد.

 

وكل ما تقدم هو ضرب من القول ينشط له من يأنس بالحقائق! فمن نصر الصورة على المعنى، كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظنة الاستكراه، وفيه فَتحُ أبواب العيب، والتعرض للشَّيْن.

اقرأ المزيد

البـــلاد: بـــلاد الزعـــتر والزيـــتون

تناديه صديقتي جيهان ب “البلاد” هكذا بلكنه دافئة واثقة من أن ما تحكي عنه ليس بلداً واحداً إنما أكثر ، لذا فهو (البلاد). (البلاد) الذي تلفه كوفية حول عنقها في شوارع لندن وتحضره لشقتي في...

اقرأ المزيد

حين رسم كليمت فكرة فرويد

للرسم تاريخ قديم لدى البشر، ابتدأ حتى قبل اختراع الكتابة بستين ألف عام! وقد مر هذا التاريخ بمنعطفات كثيرة، كانت استجابة للظروف التي قد يكون أهمها على الإطلاق، كما يشير الناقد إرنست غومبرتش، مؤلف الكتاب...

اقرأ المزيد

أجمل سنوات الكتابة، أسوأ أعوام كرة القدم.

عصَرَ طفل، في العاشرة تقريبًا، فجأة أصابع قدميه بيديه، فيما جلس مع والده المنكفئ على مركاه، أمام جريدة فاتته صباح ذاك اليوم، يزدري الأب بخفة توتر ابنه، ويستغل..

اقرأ المزيد