قصّة قصيرة

نور القمر يضيء الخراب وتبرز فيه أنصاف من حدود الخليقة الثاوية على الخلاء ويحتجب ما تبقّى في ظلامٍ غائر. كان القمر تلك الليلة جاليًا كما لو أنه اقترب من الأرض وتبدت أجرامه على أطراف الجبال والركوح والملاقي. لَمعَت عيني طائرٍ لم يميزه، إذ حلق حائمًا ثم توارى هابطًا بين الحيطان المتهدمة التي ألقت هزيل شُعَبِ ظلالها على سيّارته الواقفة. لمح زهور الأقاحي بين حيطانها، وتأرج له أثرٌ منها فَلَت من تيار الريح. سعَلَ، وما عاد يحس الألم في حلقه، بل في أكتافه. أمامهما حيطان الطين ضامرة البنية وتفرّقت أشكالها، طولها طول الرجل أو أقصر، يباسها يجذب الناظر في هشاشِ مظهره، ويشعر أنّها تهوي بلمس الأيدي؛ حفرها الزمن واجتمعت في ثقوبها فتات الأعشاش القديمة. نزل من سيّارته، وترجل في سكون ما رأى. الأقاحي كثيفة تموج في الظلال الداخلية ويخبو صفار زهورها لكنه يلتمح بآخر شعاع القمر على الحد. غطّت نصف ساقيه، وحسّ ببرودتها الرطبة على أطرافه. قطفَ زهرةً، وتلطّخت يده برحيقٍ سميكٍ يتلصّق. فتت الزهرة وتذوّقها من أطراف أصابعه. كان طعمها حيًّا لاذعًا على لسانه. هذه أرضٌ مطرت قبل عدّةِ أيّام، يستطيع استطعام ذلك فيها. جنَى كفايته منها، وأثناء ذلك، اصطدمت قدماه بشيءٍ صلب. فتحَ كشّافه ونَظَر. كانت جمجمة حيوان، بلا أسنان، ومتآكلة. عندما أكمل جولانه ممعنًا النظَرَ في الخراب وما حوله، وجدَ ثمان جماجم متفرّقة، كلّها تحت الأقاحي. واحدة منها فيها ثقوبٌ كثيرة. ليست كسور، وليست أثرًا من آثار الزمن. حيرته دقّة انتظامها، وحملها لينظر في طبيعتها، ورفعها إلى السماء، ونفذَ نور كشّافه إليها من كلّ الثقوب حتى بلغ موضع العينين والأنف، إذ تشكّلت خيوط متشابكة من النور في جوفها، ثم أعادها ببطءٍ وحرص إلى محلها الأول.  

 
مضَى لسيارته، وأدخل الأقاحي في عزبة الصندوق، التي كان في صنعتها حيلة، فهي كثيرة الجيوب وطبقاتها متراكمة ومتداخلة، تسع متاعًا عظيمًا لا تسعه العزب الشائعة. كان قد وقَفَ على حياكتها ونجارتها، وأملى صورتها على نجّارٍ مسنّ صاحب دكّانٍ متطرِّف في الزلفي يبيع كلّ أنواع البضائع، وشكى له أمره، وأنّه مكثَ وقتًا طويلًا يرفضه الصنّاع كلّ ما طلبهم في الصناعة، ويهزؤون ويسخرون بالصورة التي وصفها. زوجته تجلس في المرتبة الأمامية، وتلبس سمّاعاتِ رأس، وقد انهمكت في مشاهدة التيّار الطويل من فيديوهات «تك توك». تبسط الريح سواد فروته بين دروب الخراب، وتشتد وينبسط كامل جسده الذي تموّه في الليل الصافي، حتّى وقف وعلى مرآه بناء صخم، لم يتضح له ارتباطه بالخراب. بدا من ظاهره أنَّه أكملهم بناءً، وله باب خشبي ضخم وثقيل. فكّ غطاء مطّارته، وشرب من الماء الذي تركَ أثرًا متوهجا على شاربِ وجهه. مسحه بكُمّه، وانسابت القطراتُ لمّاعةً تمتزج في بروج السماء المنثورة خلفه. مضى إلى البناء، ولاحت له نوافذه مصطفة على الحائط تفيض منها الظلال والسكينة. دفع الباب وانسكب الهباء يعبر ضوء القمر مثل تيارٍ في درَكِ المحيط. دخل. كان بلا سقف مثل الأخريات، لكنه لم يلحظ ذلك من الخارج بسبب الحيطان الطويلة. حسّ بيباس الحشيش الكثيف الذي غطَّى الأرض. لم يعرف مثل نوعه ولا يباسه، كما لو أن جذوره تمتد في الريح وليس في هذا الجبل. أخذ يتفحصه. لاحظ رَسمه الوحشي والمبهم، أوراقه المتحلِّقة وتستقيم عند الجذور، يذكّره بأوصاف قار السماء، لكنه يختلف عنه في أوراقه. يابس، ومع ذلك يستطيع رؤية خضاره الساطع في نور الكشّاف. أكمل مشيه، وتضاءل النبت إلى تعاشيبٍ متفرقة. وجدَ رماد نار حديثة على طرف أحد الحيطان، ربما مضى عليها يوم أو يومين، وتبددت حولها حُفر عميقة تماثل القراميص في عمقها. تجاوزها بحذر، كما لو أن خليقةً مجهولة تسكنها، لكنها في النهاية أثرٌ إنسي. عند حد الحائط الشرقي لاحظ بابًا صغيرًا. كان خفيضًا مُسمَّر بمساميرٍ طحنها الصدأ حتى باتت لونًا واهنًا على الخشب. ركل الباب بقدمه وتزحزح، ركله مرة أخرى وطرحه على الأرض إذ هوى في الظلمة، وأَمْسَكَت عنه خرائط القمر. أحنى رأسه ودخل. كانت حجرة مكتملة البناء وفيها سلم ينفذ إلى سطحها. حائط الحجرة متصل بالحائط الشرقي وسقفها عالٍ، علوّ الحائط. فتح باب السلّم وصعد إلى السطح، ووجد فيه مجلسًا يشرف على العراء المستوي. أرض السطح صلفة من أثر الريح تكاد تعكس الأشياء، وتتشكل وترتعش فيها خيالات كامنة تقف عند حدود الطين. هناك جدار وحيد يسند المجلس، وما عدا ذلك شفير. أخرج جوّاله واتصل وراح يمشي جيئةً وذهابًا على حدود السطح إلى أن جمَدَ محلّه. 

 

«ورا ما تجين تشوفين؟» 

 

«وش أشوف.. ما جاز لي المكان» 

 

«طيب» 

 

«بنخيّم الليلة هنا؟» 

 

«أنتِ بترقدين بالسيارة بكل الأحوال» 

 

«ولو، المكان وحيش» 

 

«ما قلت إننا بنخيّم في هالخربات، بنبعد شوي» 

 

«أحسن ننزل من الجبل» 

 

«وشو؟ الصوت يقطّع» 

 

«أقول ننزل من الجبل» 

 

«أجيتس ونتفاهم» 

 

كانت الليلة الأولى في رحلتهما، وأول خط طويل بسيارته الجديدة. بعد أن أمضت أربعة ساعات في السيارة، عرفت أنها ستفضلها على سيارته القديمة. اشتراها قبل ستة أشهر أحد زملائه الذين درَس معهم بالجامعة. كان معلم جغرافيا في متوسطة أبو حيان السراوي بوادي الدواسر. قابله في صباح يوم سبت، وباعها عليه بعجل كما لو أنّها شؤم يريد التخلص منه، حتّى أنّه نسيَ أوراقًا له، ومخطوط كبير ومتهالك لخريطة وسط المملكة، مرسومة بأسلوبٍ كرتوني، ولا يمكن للمرء تخمين أنّها خريطة تنتمي للجزيرة العربية، لولا العنوان الذي وضع فوقها: خريطة منطقة الرياض. عمل الطالب: عبدالإله بن خالد الصميت. وجدها تحت المراتب، بين كومة من الأشياء الصغيرة المنسية، ربطتي شعر، وقلم سبّورة أحمر لا ينمحي، وعلبة سجائر جديدة من نوع أبو بسّة، وحاجيّات أخرى. ما زال يملك الخريطة تحت المرتبة إلى اليوم، وقد أخرجها لها وهم يحمّلون أغراضهم، وفَرَدَها على الكبّوت وأشار إلى موضعٍ اسمه «الفقى» في إقليم الوشم ثم سحب اصبعه شمالًا وقال أن مزرعتهم هنا.  

 

«كيف النت معك؟» 

 

«شغّال. ما يوقّف»  

 

«الحين الاتصال يقطّع والنت شغّال؟»  

 

«مالهم علاقة ببعضهم» 

 

«بثّي لي» 

 

«طيّب» 

 

قال بعد أن فتَحَ جوّاله، ونقر على الإعدادات: «ما طلع لي شيء» 

 

«غريبة. طفّ الوايفاي وشغله» 

 

«دقيقة» 

 

كان قد مد يده وارتقى بالجوال بمقدار طفيف عن مستوى عينيه، مثل شخص مصاب بقصر النظر يحاول أن يقرأ نصًا. 

 

«طيب. أبنزل. شوي وأجيك» 

 

«خلي الجوال» 

 

تركت باب السيّارة خلفها مفتوحًا، وراحت تخطو ببطء إلى أن توارت خلف شجرة. الجوالان ملتصقان ببعضهما عند القير، وكلاهما مفتوحان على الإعدادات. أصابعه الطويلة تلتفّ حول المقود، وتكاد أن تلتف في دورة أخرى من طولها. كان شديد النحف، لكنه عظيم الكتلة، وعظامه عريضة. رآها تبرز ظلًا عائدة إليه، وفتح أنوار السيّارة، وأدار المقود ناحيتها. صوت وطء العجلات على الحصَى يتسرب إليه من الباب المفتوح. كانت تقف يداها على بطنها، ويتدلّى من الشجرة بجانبها غصنٌ كبيرٌ مكسور، ويخيّل لمن يراه من بعيد أنّه جسدٍ مشنوق. ملامح وجهها مسحها نور السيارة، ولم يعد يبصر منها إلا عباءتها التي ترسم جسدها، وشَعَرَ مثل ما كان يشعر، عندما رآها تستضحي في الشتاء، على سطح منزلهما، في أول شهور زواجهما، والشمس تسطع على وجهها، وتنحلّ في النور زوائد ملامحها، ولا يبقى منها إلّا سيماءٌ لا يألفها، ويعجز أن يستبطن أصولها. 

 

قالت وهي تركب السيارة: «اشتغل؟» 

 

رَفَعَ الجوّال يتفحّصه: «إيه» 

 

«طيب شف لنا مكانٍ نرقد فيه غير ذا، كنت أقولك ننزل من الجبل» 

 

«مهيب مشكلة» 

 

عبرَا الخراب. كانوا في منتصف الشتاء. هي متلحّفة ببطانية حمراء، وهو يمضغ من الأقاحي التي قطفها. نَزلَا من درب سالك في السفح. يبعدان الآن عن الطريق المعبّد إثنا عشر كيلو. مرّا على شعيبٍ مليء بشجر الطلح الكثيف، يده ممدودة خارج النافذة، وجاوزاه حتى أصبح خطًّا من الظلمة المخضّرة يفصل بين السماء والأرض. أوقَفَ السيّارة عند صخرة كبيرة. أنزل عفشه، خيمة النوم، وفراشه، وعزبته الصغيرة. فرش البساط، وحفر للحطب، وأشعله بولّاعة الغاز. لاحظَ في الصخرة أثر ضامر على شفى اندثاره، ربما رسم، أو مخلوقٌ متحجّر، أو قومٌ مسخهم الله في هذه الصخرة وما بقي منهم إلا حدود باهتة من صورتهم. كان ينظر فيها تمتد من قلب الصخرة إلى أعلاها إذ تخفت، ثمّ تنقطع؛ حيث مجرّة درب التبّانة فوقه. الإبريق على الجمر، دون غطاء. فقاعات الماء ترتقي، وتجتمع حول زهور الأقاحي. يجلس على مقعدٍ أرضي، وهي تجلس في مرتبة السيارة. الباب مشرّع، وقدميها ترتكي على الموطئة الخارجية الملطّخة بطين متيبّس. 

 

«هذي هي الأراضي اللي تدورها؟» 

 

«حولها حنا يمكن خمس طعش كيلو عن هذا» 

 

«ليش ما كملت» 

 

«الطريق وعر، أحسن نقطعه صباح» 

 

رفَعَ الكوب بكلتا يديه، وشرِب بفتورٍ وشرود. لم ينتبه أنه شرب كلّ ما في الكوب إلا بعد ما ارتشف ووجده فارغًا. رمى بقايا زهور الأقاحي التي اجتمعت في قعر الإبريق ومسحه، وأدخله في العزبة. معه كتابان، الأول عنوانه الدرع العربي: دهر الحياة الظاهرة. أما الكتاب الآخر، فهو«دفاتر ابن حباحب الأوجس» حققه رجل يدعى سالم بن عبدالعزيز المراويل، وطبع منه خمسين نسخة على نفقته الشخصية في مطلع الألفية، غلافه شمواه كحليّ حفر عليه العنوان بالذهبيّ، وأوراقه ناصعة البياض رغم مرور الزمن. اعتمد المراويل في تحقيقه على مخطوطةٍ يتيمة في اليمن، ولا يُعلمُ للكتاب غيرها. وفق تحقيق المراويل، فإن الدفاتر كتبت في القرن العاشر الميلادي لرجلٍ عربي، هاجر من وسط الجزيرة مع والده إلى خراسان، ليخرج هاربًا في آخر عمره من خوارزم بعد أن تورّط في مكيدة قتل على إثرها خوارزمشاه، صهر يمين الدولة، وانتهى به الأمر في آخر المغرب، قرب الصحراء الكبرى. خواله أيضًا يدعون الأوجس ولأن هذا الاسم لا نظير له في التواريخ والأنساب العربية، إلا لصاحب هذه الدفاتر، وخواله، فقد تواصل المُحقق مع خاله إبراهيم في مرحلة التحقيق، والذي نَفَى أيّ صلة قرابة بينهم وبين صاحب الدفاتر فور قراءته الصفحة الأولى، لكن المحقق أهداه ثلاثة نسخ وقال له: فكّر في الموضوع. أعطاه ظهره وأخرج مفتاح سيّارته من معطفه الطويل المقلّم، ومضى، ورآه ينزل من أعلى الجبل في الطريق الذي يتلوّى أمامه إلى أن اختفى تحت السحب. 

حسّان من أهالي الرياض، لكنه عندما تخرج من الثانوية، أصر أن يدرس في أبها عند خواله، ولفّق أسبابًا مثل رفض جامعات الرياض قبوله. بعد تخرّجه بشهادةٍ في علوم الأرض، وصلته دعوة لدراسة الماجستير، لأنّه الطالب الوحيد الذي قدّم بحثًا ملتزمًا بالتقاليد الأكاديمية العامّة، مع موضوعٍ نوعيّ، ثمّ تدرّج بالسلك الأكاديمي في سلسلة من الفرص السانحة، حتّى حصل على الدكتوراه من جامعة أسترالية قبل عامين، وتزوّجا مباشرة في أول شهرٍ من عودته. تتصلّ في نسبها معه من طرف أخواله، من الأوجس يعني، لكن لا قريبة، ولا بعيدة. بينه وبينها إثنا عشر عامًا. هذه الأيام يعمل مستشارًا لشركة متخصصة في المساحة الجيولوجية لإجراء بحث ميداني. قالوا له بأن يأخذ وقته فيه، ويسلّمه بعد ستة أشهر، وفهم منهم بشكلٍ غير مباشر أن هذا البحث أحد المخرجات الإجبارية لإنهاء مشروعهم، لا يهمهم جودته أو نتائجه، يهمهم أن يكون لديهم ملفًا يرفقونه في التقرير النهائي. عمومًا البحث باسمه، وسيلتزم فيه بمعاييره العلمية. لم تكن رحلته الميدانية الأولى. كان يخرج بشكل دوري، يجول في البرية، ويسجّل ملاحظاته. يرى نفسه امتدادًا لتراث طويل من الرجال الذين درسوا الجزيرة، بن جنيدل وبن بليهد، والشايع، رغم شعوره أحيانا بفوات أن يكون مثلهم. فاته أن يذهب إلى الخرج، ليجد مدافنًا سحيقة معروضة كأراضٍ زراعية ويشتري إحداها، أو أن يطرق الجزيرة بحثًا عن مواضع المعلقات، قاطعًا الفراغ الهائل بين الهمداني وبينه.  

 

هي من أصرّت أن يبيتا في البريّة، وهو لا يمانع، فقد كانت تقضي الشهور الماضية في بطء ورتابة، تتنقل بين غرف المنزل، وستمرّ على صخرة السبج الكبيرة التي اشتراها زوجها زينةً للممر، وسينعكس جسدها ويختفي في رمشة، وستمرّ على شاشة التلفاز التي تركتها منذ الليل، وسترى فيها صورة لأحد فيديوهات يوتيوب الموسيقية، إذ تنبسط على الطاولة يدٌ اصطناعية، وقد حجب الغبار لونها ولون القماش الأحمر الذي غطّى الطاولة، رقائق الحطام متناثرة حول اليد التي بدت مرتخية مثل الموت، وستنفخ الريح الستائر من النافذة وتغبّر الأسطح، ويشهق الفضاء بالعوالق العوّامة، وستقف ثم ستحدّق بتثاقل في الساعد المبقور الذي تمددت منه عُقَدُ أسلاكٍ وتلف، وسيبدو لها أنّ الساعد ليدٍ يمنى والكفّ ليسرى، الأيّام ضباب بس الشمس تغرب في النهاية، وستذهب إلى المخزن المنزوي وراء الغرف، وستفتّش بين الصناديق، ستتذكّر عن ماذا تفتّش، ستميّزه عند مرآه، وستجرح إصبعها من بين الأشياء المتكوّمة، وستجلس عند نافذتها، بعد تعقيمها الجرح وسترى من خلال النافذة نفس الطلّاب الثلاثة الذين يمرّون يوميًا، يضعون كتبهم مربوطة بسجاجيد سماوية، وبرتقالية، ستراهم في زاوية عمياء من بين أوراق شجرة الدمس العظيمة لثانية أو ثانيتين، أحدهم يضع الكتب فوق رأسه، ويمد يديه مثل بهلوان يحاول الحفاظ على توازنه، ومع ذلك يختل وينحني ظهره ويستقيم، ثمّ يختفون عن مدى رؤيتها، مثل لمحة أثناء قيادتها في خطّ سريع، طيرُ جارح أو شجرة وحيدة في منتصف اليباب، إذ تلمع طيّات الفضاء ثم تحتجب، وسيمرّ الضحى، وستقوم لتعدّ قهوتها، وتخرج لحمة الغداء من المبرّد وتضعها في الماء لتذوب، من الأحد إلى الثلاثاء دجاج، والأربعاء والخميس حاشي، والجمعة غنم، والسبت سمك، ثم إلى النافذة مرّة أخرى، التمر من مزرعة أعمامه، خلاص مكنوز، يلمع في الشمس، وستقف، بعد أن أنهيا القهوة سويًا، وسيخرج زوجها ليكمل محاضراته المسائية، وسترى من النافذة، نفس الرجل الذي يقضي أغلب وقته يجلس في المقاعد الإسمنتيّة على طرف الجبل، وشماغه على كتفه، ووجه متجعّد ولحيته شديدة الخشونة وقد غزاها الشيب مثل رجلٍ في ستيناته وليس في أربعينيّاته، ثم يعود ويجلس القرفصاء بجانب سيّارته، السيّارة الأولى التي اشتراها والده له منذ عشرين سنة، وهي نظيفة جدًا، وتبدو جديدة كما لو أنّها مخزنة، ولوحاتها  لم يغيّرها إلى اليوم، وما زالت ثلاثة أرقام وليس فيها حروفٌ لاتينية، ولا تراه يحرّكها إلّا في حالات نادرة، لأنه يقضي أغلب حاجاته مشيًا، ويتجوّل في الأحياء، ويعرفه كلّ أحد، الكبار والصغار، والعمّال، ويعدّونه جزء من ثبات الجبال، لكن هي الآن بعيدة عن كل هذا.   

 

الخطة أن يقضيان خمسة أيام في البرية، في مسارهما يمرّان إلى بيشة ثم رنية، فظلم وبعدها عفيف، والدوادمي، ونهاية الدرب شقراء، إذ سينزلان عند أعمامه، ويقضون عدّة أيام هناك. هذا الدرب يغطي حاجته من الدرع العربي. لَبَسَ نظّارة القراءة، وأشعل النور المُدمَج فيها، وراح يقرأ في كتاب الرصيف القاري العربي، حتى نعس، وقام وجهّز خيمته الصغيرة، وفرش فراشه، وأطفأ النار، ثم ذهب إليها وفتَحَ الدرج، وأشار إلى مسدس فرد وقال:”إذا صار شيء هذا هو موجود ومعبّى.” يتشكّل النَدى على الزجاج، وتتغبّش الصحراء وليلها وسحائبها ونجومها. كلّ ما حولها ظلمة، تتبدد وتحلك مع حركة السحاب التي تحجب القمر، أما هو، فقد غطّ بالنوم، بعد أن غلّف جسده بفراش البر، وأحكم إغلاق سحّابه. فرّشت أسنانها حتى استطعمت الدماء، وغسلت فمها من صنبور خزّان الماء المثبت في صندوق السيارة. سدحت المرتبة، وتلحفت. لمحت شهابًا من بين الغيوم، وراحت تحدّق في السماء بكل تركيزها. كانت المرة الأولى التي ترى فيها شهابًا. أخذها النوم وهي تطالع في السماء.  

 

على بعد خمسة كيلوات عنهم في الشمال الشرقيّ، بين جبلين، الريح في ذروتها. يقف ثلاثة رجال، ورابعهم يزحف لهم من الجهة المقابلة، بعيدًا عن مرآهم. كانوا ينتظرونه متوتّرين. يحسّون بشيءٍ من التهيّج ينتشر فيهم، ويشدّ أحناكهم، وتصطك به أسنانهم، يجسّونه ويراوغهم، ويعجزون عن تحديد مواضعه؛ وما هو إلا نزوع أجسادهم إلى حواسها، إلى شيءٍ تتلمسه، رائحة أو صوت، لتندفع وراءها، لكنها الريح تطمر الأعراض وتدفنها، ولا يبقى من الأشياء إلا دهرها السرمدي، حتى إذا وقَفَ رجلٌ أمامهم، وأبصرته الأعين بدا لهم صورةٌ من صور الذاكرة. أحدهم رفع ساعده ونظر في ساعته، لكنه تذكّر أنها متعطلة منذ الصيف الماضي، في يوم طويل أكل كل وجباته في سيّارته وهو يتنقّل بين الورش.  

 

صاحبهم الذين ينتطرونه، دماؤه تجري من قلبه وتفترق في عروقه، وتتدافع إلى دماغه، ثم تنحبس عند وجهه ويزرّق، جسده يتحرّك، وهو لا يعي ذلك، فحركته تسبق وعيه، إذ يقف مع دمه في جبينه، وإن أطلت النظر ستراه، سترى وعيه متحجّرًا ما بين عينيه، ويكاد ينفجر ويعميك. هو أكبرهم سنًّا، مدخّن شره منذ أن كان في سادس ابتدائي. كان عائدًا إليهم، بعد أن ذهَبَ ليخلّص الأمور مع الإنسيّ، لكنه سقط على الأرض بعد انقطاع نفسه. وصلهم وهو يسحب رجليه سحبًا، واجتمعوا حوله، وخرج رجلٌ من الكرفان بكأس ماء. 

 

«الملعون هذا»  

 

«أنت وشوله تصعد له الجبل» 

 

«أحسبه قريب الله يلعنه، وكل ما مشيت حصلته أبعد» 

 

«قضينا ولا لا؟» 

 

«قضينا. حتى الراعي هذا بينقلون كفالته لنا» 

 

هؤلاء الأربعة قدموا مع الراعي السوداني، وهو يسولف لهم. عندما وصلوا إلى الإبل، وهي مصطفة باركة، والشمس خلفهم تغرب، وجوهها كلّها إلى الشرق وأجسادها يغطيها العشب ولا ترى منها إلا أطراف رؤوسها وأعناقها، وكان يحكي لهم، قال أنهم منذ نزولهم للرعي في هذه المناطق، والإبل تملّكها خمول طفيف لم يلاحظه إلّا هو، ولا يعرف بالتحديد سبب ذلك، لكنه يفسّره بقلمة مشهورة بالقرب من هنا، كانوا قد تزوّدوا لإبلهم منها. يصف حلاوةً معدنية في طعم الماء، لم يشرب مثلها إلا في طفولته في حياض قريبة من ربض أم روابة. يتذكّر تلك اللحظة بوضوح، والقوافل التجارية تعبر في خطّ متصل أمامه، وبجانبه حمار مربوط في شجرة، عند دار سينما بُنيت في الأربعينيات من القرن الماضي. تعالى صوته تدريجيًا بالكلام، حتّى نهره أحدهم، فعاود الحديث عن القلمة، لأنه كان يظن أنه نُهِرَ لحديثه عن ذكرياته، وليس عن الحديث في أمر واقعي وملموس مثل القلمة. يقول أنه عندما سأل راعٍ آخر عنها، قال له أن القلمة متعطّلة من أيام كورونا، واستغرب من ورودها معهم. ولم يصب ظنّه، فقد أظهروا التململ من سالفة القلمة أيضًا، وأمسك عن الحديث، ثم صاروا يتململون من طول المسافة، فعاود الحديث بقصد إزعاجهم إلى أن وصلوا ما بين الجبلين، وقد أهلكهم التعب والغثيان. 

 

 في الجهة المقابلة، حقائب على صخرة، وهناك دخانٌ كثيف يصعد من إحدى ثنيات التضاريس في رقمة وادٍ، ويرتقي في ضوء نارٍ عظيمة. كفرات، وعسيب نخل، وأوراق، وظلّ إنسيّ يقف ويشرف على النار. برزَ وتبدّى جسده عند النار ثم نزل إلى ناحيةِ ثغبٍ يجتمع فيه الماء. كان عاريًا، طويل القامة، ذو خلقةٍ صلفة، شعره طويلٌ مفرود، وفي جسده بريقٌ رطب منتن كما لو أنّه خرج من رحم أمّه. وقف بجانب الفرس التي قاربها في الطول، وتحسسها ودخل الماء، وغطّى نصف جسده، ثمّ عامَ، وحمله الماء، وطفى على ظهره يراقب السماء دون أن يرمش، هناك أصوات نباح لكلبهم بالقرب من الحلال، لكن سَمعُه دَرَب على عزيف الريح الضائع في هذه الأرجاء، وأصابه شيءٌ من الصمم. 

 

لم يحلم حسّان في حياته قط، لكنه تيقّظ في الفجر، وعلى طرف لسانه كلمتان، كلمتان هي أقرب ما سيبلغ من الأحلام طوال حياته. عجز عن تذكرّها. استوى في صفاءٍ امتزج بثقلٍ عقد على رأسه. يجلس ظلًا في الزرقة التي الخيمة. يتسرب الصبح رقيقًا من بين مسافات الخيوط الدقيقة، ينفذ إليه، ويتحلّق حوله. جلس بسكون الأصنام يتحرّى وعيه. وقف عند السيارة يطرق النافذة ليوقظها. فتحت عينيها، ونظرت إليه، ثم أغلقت عينيها، وراحت تستيقظ في سلسلة طويلة من الإغماض والتفتيح حتى أن استقامت رؤيتها. ترى خيال زوجها وهو يمشي ببطء إلى خطّ الزرقة ثم يختفي. كلّ ما حولها هادئ وساكن، واستبان لها صوت أنفاسها الذي فقدته طوال الليل من شدة الريح، بعدما هدأت وتفرقت في الفجر. وقّعت بعوضة على ساعدها، وراحت تحدّق فيها بسكونها الجُثثي، وهي تمتّص الدماء منها. وعيها كلّه ينصبّ في عينيها. هناك، الشعور دائمًا هناك. رأت شعورها بالوخز. جسدان منفصلان، جسدٌ يرصد، وجسدٌ يحسّ. تحرّكت، وحلّقت البعوضة خارج السيّارة واختفت. هذه بعوضة حملوها من البيت، وكانت ترنّ وتقرص فيهم طوال الطريق، وعجزا بعد محاولات كثيرة عن اصطيادها أو إخراجها من السيارة. الآن حلّقت إلى هلاكها، تحمل دمها ودمه، ليتبخّران معها في الصحراء. سمعت صوت طقطقة زجاجية وحركة حيّة تأتي من خلف السيارة، جمدت في محلها ثم فتحت الدرج وأخذت تحدّق في الفرد ثم تنظر إلى مرآة السيارة الجانبية وتعاود النظر إلى الفرد، وجمدت. التفتت لترى زوجها يقف خلفها، ويحدّق فيها، وفي الدرج المفتوح. التفت إليه مشدوهة ومتفاجئة، ونزلت وقالت: بسم الله، ما هو أنت اللي كان يمشي؟ ونَظَرَ إليها باستغراب وقال: لا، واهمة شكلك. أخرج دافورًا، وأربعة بيضات، وخبز، ومقلاة، وطبخ الفطور.  

 

رأت الشمس تشرق عملاقةً من أطراف الأرض، ترتفع لتنشر شفقها، في الأفق نقشًا لجبالٍ لا يرى منها إلا ثقالة لون داكن، وتبدو لها مثل دخانٍ عظيمٍ ذو غاية كونيّة يحشر كل شيءٍ تركاه خلفهما. كانت تكره كل أنواع المرائي الطبيعية، الجبال، والصحراء، والغابات. لا تحب أن تكون الأشياء مرئية وظاهرة، لذلك تحب البحر، والمدن الكبيرة التي تختفي وتحتجب الأشياء فيها، على عكس بيتها الآن، المطلّ على الجبل، على طرف قرية صغيرة، في الحد الفاصل بين الطبيعة والعمران، حيث الزواحف، والقرود الملاعين. كانت تراهم من نافذة صالتهم العلوية، كل يوم، يتحرّكون مجموعات في حرب مستمرة يومية مع المزارعين، وفرق الإصحاح البيئي الذين يأتون كل أسبوع بملابس وسيّارات مختلفة بعد أن حفظتها القرود وأصبحت تهرب قبل وصولهم. بعض الفرق ينزل أفرادها متلطمين ويقدمون لها عصائر مسممة. في إحدى الصباحات استيقظت على أصوات صراخ عنيفة، وعندما حلّ سكون الظهيرة، وقامت لتنظيف نوافذ صالتها العلوية، فوجئت بسبعة قرود مصلوبة على رأس الجبل المقابل تلوح في الضباب. قضت أغلب حياتها بالدمام، في حي مدينة العمال، وفي حارة قريبة من نادي القادسية. أقصى مواجهة لها مع الطبيعة في بيت أهلها وجدوا في حمام السطح المهجور خفّاشًا ميّت. الحمام كان مغلقًا بإحكام، والتفسير الوحيد الذي فكر به والدها، هو أنه أتى من المجاري، وزحف يتسلّق المواسير إلى أن دخل من المرحاض الجافّ. أدركت وقتها ورغم تشككها في كل شيء، أن كل هذه الخليقة موجودة، تعيش معها، لكن يقلقها أن تكون مرئية  هذا القدر. 

 

«شف» وأشارت بإصبعها. رفع رأسه، ورأيا فرسًا تقطع الأرض في مسارٍ يوازيهم، ومع المسافة التي بينهما، إلا أن بنيتها الهجينة كانت جليةً لهما. كانت شدفاء، غليظة الخلق، عظيمة البنية. يقودها رجلٌ عملاق، شعره طويل مفرود يرفرف في الهواء مثل راية.  

 

«وشو ذا؟ تشوف الخيل؟» 

 

أجابها وهو يحاول أن يضيّق عيناه لتتضح رؤيته: «إيه.. وش يزيّن في ذاك؟» 

 

«حنا وش نزيّن؟» 

 

«هاه؟»  

 

البيض على المقلاة بدأ يحترق. أبعده عن النار، وأضاف شرائح الجبن على الخبز، وحشاه بالبيض، ثم أضاف الشطّة ومدها لها. التهمتها بأناة، تمضغ في اللقمة إلى أن يختفي طعمها، وتبلعها. 

 

«كيف حلقك؟» 

 

«أحسن، بدا يخف» 

 

وأكملا فطورهما صامتين. 

 

بعدما أنهى فطوره، قام وأخرج علبة دهان نيفيا زرقاء، وراح يدهن يديه وصلعته. ورث صلعته من خواله. جميعهم صلعان، وبالعموم عائلة الأوجس مشهورين بصلعاتهم اللمّاعة، وتجري طرفة بينهم أنّ الولد منذ ولادته تنبت له أربع شعرات وتسقط شعره ويتصاعد هذا المعدل في السقوط حتى بلوغهم.  

 

قالت وهي تتأمله يدهن ساعديه طوليًا من كوعه إلى كفه كما لو أنه يتوضأ: «فكّرت في اللي قلت لك؟» 

 

«عبدالعزيز أخوي شرى له شقة في الرياض، بالعارض، أثثها وصار يأجرها كل يوم» 

 

«طيب، تبي نسولف، أوكي.» 

 

«وش أخبار عمّك سليمان؟ تقول خالتي مرقّد في المستشفى» 

 

«انقلبت فيه الحرّاثة» 

 

ضحك ثم قال: «وشلون حراثة تنقلب، ما تدخل الراس» 

 

 «على جنبها انقلبت ولقوه مغمى عليه، فوق أكوام من تبن. يحسبوه نايم. بعدين أنت تفكر حراثة كبر الشاحنات، لكن حراثته لو تشوفها تحسبها دبّاب، حتى الظاهر إنها تنشحن بالكهرب، أو مدري يمكن إنهم يطقطقون عليها» 

 

«فيه شحنة لك جت أمس الصبح، استلمتها، وحطيتها في الملحق» 

 

«على الطاري توني أذكر. ولا أنا قلت لك؟ همم لا ما ظنتي قلت لك. تخبرين الشحنات اللي ضاعت لك ذيك الأيام؟ كلموني قبل كم شهر. طبعًا أغراضك كلها ضاعت. فيه مشكلة. يقولون الأغراض ما كانت مشحونة للسعودية، كانت رايحة بلغاريا، كلها راحت لنفس المكان. مخزن قريب من ميناء، حتى أرسلوا لي الموقع، ودخلت وشفت صوره والتعليقات. واحد كاتب: أفضل مؤسسة لإدارة الحفريات» 

 

«باللهي؟» 

 

«مهوب أغراضك بس، ناس واجد غيرك. بس الظاهر حنّا أول من اشتكى. الظاهر إنهم عصابة» 

 

«وشلون غيّروا الموقع حقي؟» 

 

«هذا اللي عجزوا يعرفونه شركة الشحن» 

 

«عموما، أبي أسمع منك» 

 

«طيب. ما أظن إنك صاملة بكلامك، ولّا ليش تشاورين؟» 

 

«ليه؟ لأنه يخصك مثل ما يخصني» 

 

«لا، صدقيني أنتِ ما تشاورين» 

 

«بشاورك هنا، لأني أبيه نقفّله بدون ما ألقى أبوي وأبوك متخانقين» 

 

«مدري وش أزين يعني؟ ما فيه حرمة تقول خلنا نخطط طلاقنا، ثم بعد يومين تقول بطلع معك البر، الوحدة تهج لبيت أهلها وبس» 

 

«والله إنك ما تفهم شيء. عجيب جهلك» 

 

 في مخيلتها طلاق معيّن، تظن أنها بالتخطيط الكافي ستجعل أقربائها إذا جلسوا بعد عشر سنوات، يتناقشون حول هل ما زالا متزوجان أم تطلقا. لا جدال في أنّ النقاش سينتهي إلى تأكيد طلاقهما، لكن الجميع سيتفق أن زواجهما كان مثل الأحلام. هي تريد هذا بالتحديد، أن تُهندس طلاقها إلى أن يتوارى في تلك المساحة مثل أشياء كثيرة، هل سافر عمّها عبدالرحمن، أكبر أعمام والدها، إلى تايوان في مطلع التسعينات، أم كانت سفرته إلى تايلاند؟ أو هل درست خالتها عبير الأحياء ثم حولت لتدرس العربية بعد ثلاثة سنوات، أو هل أصيبت ابنة عمّتهم بالسرطان ثم تشافت منه؟  

 

يقود بركادة وحذر، والتضاريس حولهما تنكفئ وتتبدّل على مهل إلى أن وصلَا سلسلة متفرّقة من الجبال. مرَا على فيئٍ من الطير الأسود يخرج من جوف إحداهن، ويصطف بُقعًا في شحوب السماء، ليسافرَ إلى الأفق الشرقي، ويختفي في الحمرة. وَصَلَا إلى مأزمٍ يهبط بين جبلين، وهبطا يشقان الصخور الملساء المتفحّمة، صخور بكل الأشكال تجللها في النهاية غصونٌ امتدت من أحد الجبلين، وكان من نفس النبات الذي رآه في الخراب، لكنّه أنضج، وأكثر كثافة، وكوَّن ما يشبه العريش الذي ينقطع في منتصف المسافة، وينزل بكثافة إلى الأرض. عبور السيارة من هنا سيصيب هيكلها بحكّات متفرقة، ومع ذلك عبرا في الضيق. انقضى كهرٌ من النهار، وتوسّطت الشمس كبد السماء، وانكسَرَ ظل السيارة أمامهما، واتسع الدرب ثم عاد في ضيقه حتّى صارَ شيّقًا خانقًا أفاضَ بهما إلى بسيطة شاسعة الفضاء. أوقف السيارة في تشوشّ كما لو أنَّ أبعاد جسدِه اختلّت، فقد باغته الخواء العظيم بعد أن كاد يطبق عليه الدرب، واختلط عليه الأفق. تكوَّنَت في الأفق غيومٌ داكنة تميل إلى السواد، وصارت تحيط بهم من جميع الجهات كل ما تقدّما. بعد أربعة كيلوات، وقفا على غابة من النخيل تشابكت ببعضها، إذ نمى بعضها أفقيًا، متمازجًا مع حملها، وبعضها خار على بعضه بين الحشائش والنبت الصحراوي المُسرّح الذي غطّى ما بينها، حتّى بدت كما لو أنّها كينونةٌ حيّة واحدة، لا يفلت منها إلّا أقدم النخيل التي لم يبقى منها إلّا جذوعها الطويلة مثل أعمدة خشبيّة تنذرُ بهلاكِ كلّ شيء يتولّى عنها. على إحدى النخيل ربُطَت الفرس التي رأياها. الآن أدركَا عظم بنيته الوحشيّة. كان كثيرَ العصبِ، مجفر، ضليع، قوائمه غليظة، وجوانبه منتفخة، وظهره عريض، وجلجلته صافية تخرج من جوفه، وطولها يفوق طول كلّ فرسٍ عرفاه في حياتهما. من بين النخيل، خَرَج الإنسي، ووقف ينظر إليهما، ثم حرّكا السيّارة وانطلقا في طريقهما. ثم تبعه رجلٌ آخر يشبهه في الطول والملامح، وشعره كثيف لكنه ليس طويلًا. تمتما إلى بعضهما، وتوارى صاحبه بين النخيل، وخرج منها وهو يركب فرسًا أخرى. ومضيا في طريقهما، تارة الإنسيّ يسبق صاحبه، وتارة صاحبه يسبقه. لم يعد يُسمعُ في الفضاء إلّا خطوهما، ثمّ سمعا هزيم الرعد من بعيد، ثمّ اشتدّ، وهاجت فرسه، وأصبح يدورُ في حلقات، حتّى عنَّنه وهدأ. ضربت صاعقةٌ الأرضَ في الغرب، ثمّ وصلهم صوتها المجلجل. أدركهم المطر. كان شديدًا منهمرًا، يصفق في وجهيهما، ويغشي الأعين، وينشر في الفضاء ضوءًا متكسّرًا وهّاج. هتَفَ للإنسي لكن صوت المطر حجب صوته، وصار يؤشّر بيديه، وانعطف في سيره إلى الشرق ببطء ومشقّة. تبعه الإنسيّ. توالت عليهم الصواعق التي ضربت حولهم وحتّى أقصى الأفق. ضُرَبَ الإنسيّ من إحداهن، وخرَ هو والفرس على الأرض. الفرس صرعَت وانتفضَت تسري فيه بقايا الصاعقة أمّا الإنسيّ فقد قامَ وهو يمسك مقدّمة رأسه ويترنّح. بركت الفرس الأخرى على الأرض ورفضت التحرّك. نزل عنها يجري إلى الإنسي، وهو يصرَخ: أنت سلمت؟ ثمّ ردّها عدّة مرات. رفع الإنسيّ يده وأشارَ إلى الفرس، ثمّ ذهبَ إليه وهو يترنّح، وصاحبه خلفه. انحنى وأنزل رأسه يتفحصه، واختل توازنه وسقطَ عليه وصار يزحف فوقه، حتّى اصطكَ رأسه برأسه، واستلقى بجانبه، ثم مدّ يديه إلى رأس الفرس، وضغط بهما، عيناه في عيني الفرس الجاحظة التي تلمعُ في سوادها. ستلتحق الفرس بهذه الأجرام المبددة في البسيطة ليكون آخرَ من يصير ترابًا على الأرض، عندها ستمرّ عليه أجسادٌ حيّة في سير موتَى، عيونهم ثقوبٌ سوداء، لا يقفون ولا ينظرون، وحولهم الجثث، جثثٌ على مدّ البصر، جثثٌ ترفض أصلها الطينيّ، ولا تتحلل، تبقى في يباسها، يتراكم بعضها فوق بعض إلى أن تصيرَ جبالًا فيها تيهٌ من الدروب والطرق والمداخل والمخارج التي ستقودهم في النهاية إلى آخرِ ما تبقّى من عظامِ جمجمته، يعبرون في طريقهم ولا ينظرون. 

 

يرَى صاحبه يتكلّم، وقطرات المطر تهطل بشدّة عليه، وتحجب كلّ ما حوله في شلالٍ من الماء، وتحيله إلى ظلٍّ مائي؛ لكنّه لا يسمعَ غير وقعها الذي توحّد مع كلّ حواسه. وقفا ما يقارب نصف الساعة. والمطر لا يتوقّف، والإنسيّ يستلقي بجانب فرسه الميّت، وصاحبه يقف بجانبهما. كانت الأرض من شدّة المطر تنفث الماء ولا تتشرّبه. نهضَ الإنسي، ووقف مع صاحبه، ثم ذهبَ صاحبه إلى فرسه وحاول أن يحركها، لكنها بركت ولم تتحرك وشدّ عليها ثم رفست وانطلقت بأقصى قوتها حتى اختفت. تمتم بلعناتٍ لا تفهم.التقدّم على أقدامهم لا جدوى منه، ولا ذرى حولهم. وقفا تحت المطر بجمود ينتظرانِ توقفه. مضت نصف ساعةٍ أخرى، وغطّى الماء قدمهما حتى حد الوضوء، وبلغ جزءًا من رأس الفرس وتسارع ارتفاع الماء حتّى غطّى نصفه، ثم غطاه كلّه ولم يعد ظاهرًا من الفرس إلا جوانبها العريضة وبدت كما لو أنها كثيب أبيض، ثم توقّف المطر.  

 

الإنسي يدعى عبدالرحمن بن صالح الفلّاك، يملك قطعان من الإبل، وأربعة خيول عربية عريقة، هذا أجودها، ويحب أن يقوده في البراري برفقة أخيه الأصغر. يخرجان في الصباح من الكرفان. يقفان ليدخّنا، ويشربا القهوة، وبعدها كل منهما يركب فرسه، ويعبران في القفر والريح التي تعبء ثيابهم، يتوغّلان في قلب الخلاء عشرات الكيليوات، بدون وجهة. بالعادة منازل رعيهم شمال حفر الباطن بالقرب من رفحاء، لكنه اليوم هنا ليتنازل عن نصف إبله ديةً. الرجل الذي توسّط بين العائلتين، أحد أبناء عمومته الذي ذهب بكلّ العائلة وأوقفهم صفًا واحدًا أمام المنزل، وهو يتقدّمهم، وفاجأ كلا العائلتين بمبلغ الدية، والتنازلات الأخرى، كانوا مقتنعين، لكن المعتوه ارتجل لأسباب ضغينة قديمة بينه وبين عبدالرحمن وقال: وزود نصف حلال عبدالرحمن أخوه لكم. يجيبها وينزل بها هي ووايتها وراعيها، المنازل اللي تبونها.       

 

قال أخوه: «أنت طيّب؟» 

 

«ايه» 

 

«توجس شيء؟» 

 

«لا» 

 

«وش حسيت يوم ضربتك؟» 

 

«ما حسيت بشيء لكني شفت» 

 

«وش شفت؟» 

 

«خلا، مثل هذا.. لكنه في السما» 

 

 حدّق مستغربًا إلى أخيه ليتأكّد من جديته، ثم راحا يخطوان حتى اختفيا في المرأى مثل ما اختفت السحب، وتبدد المطر. 

 

رغم إصرار خوارزميّة تك توك على فيديوهات في اهتماماتها الشخصية، إلّا أنها تستعرض بينها فيديوهات عشوائية، فيديوهات سمتها الكبرى هي الواقع، وفرة من الواقع. فيديو لإحداهن تغسل الحوش وتتحدّث عن متعة يوم السبت، متعة التفاصيل العادية الصغيرة، الفيديو الذي تبعه، لرجل يصوّر أعمامه الطاعنين بالسن، ولا يبدو عليهم أنهم يدركون تصويره لهم. أحدهم يتحدّث بصوتٍ يتقطّع بين رنّات صرصار الليل والمكيّف الصحراوي الذي يرنّ بتدفّق الماء مثل شلال خفي، ويسولف، سواليف عن عائلتهم، وعن السنوات، وعن الجو، متى سينتهي البرد؛ كما لو أنها تجلس معهم. موت الواقع؟ لا لا، هذا زمان. اليوم الواقع يتحرّك بتيّاره الوفير، ليغزو كلّ الوسائط ووعيها، واقع خام وفوضوي لم تمسه أي سردية. أغلقت الجوال، وفكّرت في متعها الصغيرة هي، ولم تجد شيئًا يشبه ذلك. كل متعها تأتي متفجّرة، وتخفتي فجأة ولا يبقى منها غير السكون، وفكرت أنها لو سألت أختها الصغرى عن متعها، ستجيب بكل شيء يظهر في سلسلة صور العشوائيات التي تنشرها كل شهر، قهوتها، ونور الشمس الذي يدخل غرفتها، والمشهد المطلّ من منزلهم، ومبخرتها الخشبيّة الملوّنة التي أهدتها لها صديقتها في حفل تخرجها. وستقول أنها لا تتذكّر متى بدأت تقدّر هذه الأشياء، الأكيد أنها لم تكن تفهمها في طفولتها ولا مراهقتها، بالعكس، كان يقتلها الملل، أيًا كان، كلّهم يتنسكون في لحظاتهم الصغيرة، وأختها تتنسّك معهم، أمّا هي، فلا تفهم المتع الصغيرة، وستقول لهم: يعني زهد؟ يعني تبين تصيرين زاهدة؟ ثم انقطع الاتصال بالإنترنت.  

 

عندما تراكم السحاب قبل ساعتين، وبلغتهم الهماليل، أوقف حسّان سيّارته في موضع مرتفع، ينتظران عبور المطر.  

 

«لو إنك متأكد من الطقس قبل نطلع على عماها» 

 

«فاتح الرادار الصباح، السحاب كله جنوب» 

 

«لين الحين ما فهمت، ليه مصرّة تجين معي. ما أشوف جايز لك الموضوع. يمدي نديور وأحطك في البيت، وأكمل لحالي» 

 

«ما هو لازم يجوز لي عشان أبيه» 

 

بعد توقّف المطر، وتفكك السحب وطلوع الشمس، عبرا ما يقارب الكيليوين والجبال بينهما تصبّ بشلالاتها، وتجري في شعاب الأرض. وصلا إلى جبل فيه كهف عظيم. هذا ما يبحث عنه. إحدى الممرات البركانية الثلاثة التي سيدرسها في بحثه. تشكل قبل ملايين السنين، عندما كان بحر تيطس الكبير يغمر النصف الشرقي من الجزيرة، وهذه الأراضي ضفافٌ خضراء ممتدة، سفوح وأودية وغابات، ممرّات وطرق لم تطأها قدم، أجيال من النباتات تولد وتنقرض لم تمرّ عليها الأنعام إلا ربّما من يضيع عن قطيعه، ويمرّ بينها، يتصيّد لصوتٍ يألفه، أو رائحة تشبه الحيوان، لكن كلّ ما حوله حفيف هو حفيف الشجر، وفي يومٍ ما ستنفجر هذه الجبال التي تحوّط هذه الغابات، لتكوّن هذا الكهف. كان عميقًا، مبتداه رحيبٌ تدخله الشمس وتنير حيطانه الجوفاء ليصطبغَ بياضها الشديد بصفرةٍ تلمع مثل الطلاء. أخرَجَ طائرة مسيّرة من متاعه مخصصة لاستكشاف الكهوف.  

 

«تدرين فيه رياضة للناس اللي يدخلون لآخر الكهوف؟» نظرَت إليه بملامح منزعجة. لم تكن تريد الحديث.  قال: «اسمها الاستغوار». كانا واقفان عند الكهف أخيرًا، شعرها مبعثر في الريح، ويغطّي فمها وعينيها، وهو مشغول بأداة التحكّم، والمسيّرة تصعد وتهبط بصوتها الزنّان، وتدخل إلى ستار الظلمة، إلى الممر البركاني.  

 

توفي ابنهما الوحيد قبل ثلاثة سنوات، كان مفقودًا منذ أول أسبوع دخل فيه إلى المدرسة. هي وزوجها كانا في الرياض ليحضران عرسًا لأحد أقربائهم، وقد تركا ابنهما في بيت خاله إبراهيم. وجدت جثّته في أحد الآبار المهملة بعد أربعة أشهر، يحوّطه كراتين من الأحذية المستعملة وحاوية لتبرعات الملابس. أثناء الأربعة شهور، كانت تخرج في الليل. تأخذ سيّارة زوجها الصغيرة، وتهيم في الشوارع بحثًا عنه. في البداية نهرها، ثم يأسِ منها. لم تكن تجيد القيادة وقتها، وتعلمتها بالتجربة، دون توجيه. صدمت عدة مرات، وكانت خفيفة. المرة الأخيرة التي قادت فيها السيارة، كانت في اليوم الذي وجدوه فيه. انفجر عليها الإطار في أحد الأنفاق، وركنت سيّارتها فوق الرصيف. اتصلت على زوجها عدة مرات لكنه لم يرد. وأثناء تفحصها للإطار، لاحظت بابًا على بعد أمتار قليلة منها. لم يكن على الطريق، بل في ثنية على الجدار مثل الممر. وقفت أمامه وحدّقت في ما حولها. كانت أصوات المراوح التي حوّطت أعالي الجدران تصمّ الأذان.على شريحة الزجاج المستطيلة والمغبّشة ضوءٌ خافت لا تلحظه إلّا عند اقترابك، مدت يدها إلى المقبض المعدني، وفتحت الباب ببطء كما لو أنها تريد تنبيه من وراء الباب أنها ستدخل. سحبتها سلاسة الباب غير الاعتياديّة إلى ممر فيه درج لا ينيره إلّا نجفة صغيرة في عتبة الاستراحة ما بين الدرجين. تفحّصت المكان، ولم تجد غير معدّات قديمة، وآلات بناء تحت الدرج. صعدت إلى العلوّ.  كان الدرج يتكوّن من سبعة ثنيات. لو كان في مبنى لكان سبعة أدوار. في علوه هناك باب يماثل الذي في النفق، لكنّه بدون شريحة زجاجية، عندما اقتربت لتفتح الباب، سمعت صوت رجلٍ يتحدّث من راديو أو تلفزيون، صوته بعيد ومشوشّ، ويمتزجُ بموسيقى تشبه موسيقى افتتاحيات الأخبار أو الإعلانات القديمة. دفعت الباب في حركةٍ غريزية، وانفتح جزء بسيط منه. كان وراء الباب شيء منع فتحه كلّه، وبدا لها صوت رجل الأخبار واضحًا. عندما نظرت في الأرض، وجدَت مساندًا على الباب، وبساطًا مفروش، ورجلًا مسنًا لحيته حمراء، يحدّق فيها بصمت ويحمل راديو خشبيّ قديم على أذنه. أغلقتُ الباب بقوّة. ووقفت مذهولة، ويديها تضغط بشدّة على المقبض، ما زلت إلى اليوم تتذكّر برودته التي خدّرت كفها، برودة تشبه مواسير الفيريونات. اتصل عليها بعد ما يقارب الساعة من جلوسها، وهي تنظر في السيّارة العابرة، وتردّ كل أحد عَرَضَ عليها المساعدة. كانت الظهيرة حارّة عندما عادا إلى المنزل، والشمس تسطع على منجل النباتات البريّة المنسي في إحدى إطارات نوافذ الدور الأرضي، ومغسلة الملحق يتسرّب تهريب الماء وينسكب متقطّعًا في الخطّ الملحي الذي كوّنه مع مرور الزمن، والكراسي المبعثرة في الحوش باهتة في ألوانها من الغبار والزمن، ودرّاجة ابنها التي لم تتحرّك منذ اختفائه، ما زالت على نفس الوضعية البطولية التي أوقفها فيها، بإطارها الأمامي المعكوف، والمواعين المتراكمة في المجلى، والثلاجة المليئة بالنعم المتيبسة، خبز وخضروات ووجبات قديمة. في الظهيرة اتصّل على زوجها الضابط المسؤول عن البحث، وطلب منه القدوم إلى مركز الشرطة. لم يخبرها عن الاتصال. ذهب وحده وهي نائمة على الأريكة في الصالة العلوية. كان يعرف أنهم وجدوا ابنه، وكان يعرف أنّه سيذهب لبدء إجراءات استلام جثمانه. 

 

كان عبدالرحمن الفلّاك الإنسي، في السيارة مع أخيه بالقرب من الممر البركاني، بعد يومين من الصاعقة التي ضربته، وقد أهلكته مضاعفات الصاعقة، واستلقى في المرتبة الخلفي. بين الأحجار هناك شيءٌ شاذ عن المشهد كلّه. ميّزه أخاه من بعيد، ونصاه. كانت الطائرة المسيّرة التي استعملها حسّان لفحص الممر البركاني، وهي محطمة تقريبًا، لكنّه أخذها معه، وركب سيّارته، وعادا إلى الشمال. 

اقرأ المزيد

لماذا أسافر لإيطاليا سنوياً؟

عدت من صقلية بعد قضاء إجازة قصيرة، عدت محملة بزيت الزيتون، والزيتون الأخضر، ومعجون الطماطم الصقلي، وجبنة الموزوريلا، والمعكرونة المصنوعة منزلياً، نثرتها على طاولة المطبخ بفرح طفولي، ستفوح الدار في الأيام القادمة برائحة الطماطم والريحان...

اقرأ المزيد

حين رسم كليمت فكرة فرويد

للرسم تاريخ قديم لدى البشر، ابتدأ حتى قبل اختراع الكتابة بستين ألف عام! وقد مر هذا التاريخ بمنعطفات كثيرة، كانت استجابة للظروف التي قد يكون أهمها على الإطلاق، كما يشير الناقد إرنست غومبرتش، مؤلف الكتاب...

اقرأ المزيد

الـــــعالم المـــــجنون

ربما لن تكون مصادفة لو قلنا لكم أن أول عدو في أول فيلم أنيميشن مصوّر لسوبرمان، هو عالمٌ مجنون، يريد تدمير الأرض، دون سبب واضح. بالنسبة لنا، هذه الصورة تطبّعت للدرجة التي لا نلاحظ غرابتها،...

اقرأ المزيد