الاسم هو مسكنٌ لكينونة الشيء و اتجاهه، إذ يدلنا على معنى ينطوي عليه ذلك الترادف ليكون جزءًا من القصة يبني شيئًا من دلالاته ضمناً، كرمز يختزل الحكاية من أولها حتى النهاية، ولكون ارتباط الاسم بمسماه يشكل شيئاً من الملائمة والمقاربة وما يعكسه ذلك كله كأنما هو ارتباطٌ بين المعنى واستدلاله، و إن العقل كما يرى ابن القيم يعبُر من أحدهما إلى الآخر : من الاسم لشخصه أو من الشخص لاسمه، كما كان إياس بن معاوية الذي عُرف بصدق حدسه وفراسته، وقد كان قاضياً في البصرة إبان العصر الأموي، إذ يرى الشخص فيقول : ينبغي أن يكون اسمه «كيت وكيت» فلا يكاد يخطئ، وأيضاً مثل أن يقول شاعر الحمراء في ما يستدله الاسم للمعنى:

«وكلما أبصَرت عينَاك ذَا لقَب.. إلاَّ ومعنَاه إن فكَّرتَ في لَقبِه».

 

الأسماء، بطريقة ما، هي قوالبُ للمعاني ومحددٌ للوجود، وجودٌ في الورق والسجلات والكتب، ووجود في الأذهان والقصص، ووجودٌ في اللسان عند النداء لما يستقيه من مدلول معناه.

 

وفي ظلال استدلال المعاني بأسمائها في مساحات الشعر الشعبي وإدراكات الاستغاثة بالرفقه سواء حقيقية واقعية، أو تخيلية بين طيات بحور القصائد، أو إن شئنا القول: بحث الشاعر عن «الفزيعة» ومن يجسّرونه في واقع همه، الحاضرون دائما في مقدمة الصفوف لخيال وذاكرة الشاعر هم: «سعد وسعود». ولكل منهما موطنٌ للاسترسال في التوجد والتشكي وانهمار لحظات الاعتراف واعتلال الشعور الوجودي، يكاد يكون أحدهما أو كلاهما كأنما شخصية «مارفل» خارقة تقفز بخفة فوق أسطح البيوت والجبال والسحب لإنقاذ الموقف، أي موقفٍ كان، بمجرد أن يتوجع الشاعر مثلاً في: «قلبي غدا واستيسره لين العود.. محدٍ يفك القلب يا سعود منها» أو حتى في حالة استنفارٍ قلق مثل: «أحسب عمار الدار يا سعود جدران.. وأثر عمار الدار يا سعود أهلها».

 

سعود هو الحاضر مراراً، والصديق الجلمود الذي فوق العادة، حتى وإن أقبل باسماء اخرى مختلفة من كليبٍ إلى حسين وعلي، لكنة يبقى مثار بحث دائم للشاعر، مثل من قال: «كل من يضيع صاحبه يبلش سعود! یا سعود ما شفته؟ ويا سعود وينه؟ يا سعود علمه، يا سعود هاته”. دائما يأتي بعد طلبٍ حثيث، لكي يُقبِل سعود محلقاً بسرعه حتى يهبط متربعاً على سجادة المنادي الحمراء المنقوشة والمهترئة، يسحب فنجان دلته قبل أن ينهي جملته، منتظراً أن يتصرف سعود لإنقاذ الموقف ويخرجه بجواب واضح عن: «كثر الهواجيس يا سعود، قامت تكسّر عبرتي في ضميري»، ويأتي أيضا شاعر آخر يبحث عن ملاذ للاعتراف وطريقٍ للفرار من همومه: «يا سعود يا مشكاي! وش التدابير؟» ويمضي سعود منطلقاً، راكضاً في سماء الشعر وسحابه، ينطح النجوم ليضرب باب المنادي بكعب رجله حاملاً كراسته الهندسية وشنطة أدويته ليشرح للشاكي كل الخبايا والتدابير. يأتي رسم سعود في خيالي التصوري نحيلاً طويلا بعظام دقيقة ذا شعر كثيف يمشطه جانباً من زود التمدن، وحين يتمشى؛ يتمشى بمزاجٍ عليل وهو يهز كتفيه مكهرباً ومردداً: «أنا سعود، دْقّ العود*».

العمل الفني: نوف السماري

العمل الفوتوغرافي: عمر التميمي

ثم في سياقات أخرى يحضر سعد، ذلك الشخص الخيالي الذي حين تناديه يأتي مهرولاً بحركةٍ بطيئة، تتخلل الريح شعر رأسه، نحو معرفة ما يحتاج معرفته من قضايا مؤرقة للشاعر عند: «يا سعد لا تحاول كل شيء تعرفه»، ويصر على احتياجه للمزيد من التفاصيل، ليودعها دفترَه الأصفر الصغير المقلم، والذي ينقل فيه الأخبار ويحسب مسائل الليل بشكواه وهمومه، حتى يكون جاهزاً لتوجيه الشاعر لخطاه السديدة بطريقةٍ شديدة الدقة حين يطلب: «يا سعد خبر زريف الطول عني.. كان وده لي بعمر بهالحياتي»، تخطيط سعد في خيالي التصوري مربوع في رسمه، ورأسه مربع معه، منبت شعرهِ فوضوي، صغير العينين، وابتسامته عريضه ولا يزرر ثوبه النيلي.

 

لذا فالأسماء عناوين للتجارب مهما حاولنا تهميشها أو تجنبها، ولطالما كانت تشكل جزءًا من السياق الخاص لمعنى الحكاية كاملة، عدا عن كونها اختصار الإشارة لكل تلك التجربة، بكامل خطوطها وألوانها وأفكارها، كأنما عنوان لعمل فني كيفما كانت قيمته، وكأنما أيضا استدلال لنجم بعينه في سماء الفلك بكامل كواكبه ومجراته.

 

في ثقافة بلادنا تاخذ النجوم منازلها وتُسمى بأسماء نعرفها من موروثنا ومعطياته، وله تفسيره بارتباطات ترجماته، فيقال بأن سعد وسعود هما بالأساس بيتٌ لنجم “سعد السعود»، وهو أحد المنازل في خمسينية الشتاء وتسلسل النجوم لمعرفة خريطته في تدوين موروثنا الشعبي. ومنزلة «سعد السعود» هي نهاية شهر فبراير الميلادي حتى شهر مارس، حين يبدأ البرد بالانحسار نسبياً وتذوب الثلوج وتسير المياه في الأرض، وفيها يقول الساجع: «إذا طلع سعد السعود، يدب الماء في العود ويدفأ كل مبرود، وسعد السعود سلاّخ الجلود»، وبطلوعه يعتدل الزمان وتزهر الأعشاب ويزرع فسيل النخيل وتكثر الأمطار.

 

عن تسلسل السعودات وبردها في خمسينية الشتاء، وتسلسل نجومه وتسمياته، وعن أحد الروايات الشعبية المتوارثة جيلًا بعد جيل، أن شاباً اسمه سعد قرر السفر، وكانت الأجواء دافئة عندما قرر أن يرتحل خلال فصل الشتاء، فكان قد نصحه والده بأن يحمل معه ما يدفئ به نفسه من هبوب البرد سواء من الفراء أو الحطب، إلا أن سعداً لم يستمع إلى نصيحة أبيه. وبعد أن قطع منتصف طريقه، تغير الطقس فجأة وهبّ البرد قارساً فهطلت الأمطار الغزيرة والثلوج، ولم يكن أمام سعد سوى أن يذبح ناقته ليحتمي بأحشائها من شدة البرد، لذا سميت أول المنازل بفترتها الممتدة من مطلع شهر فبراير حتى منتصفه بـ«سعد الذابح»، وبعد أيام شَعَرَ سعد بالجوع ولم يكن أمامه إلا أن يأكل من لحم الناقة، وبذلك أطلق على هذه الأيام «سعد ابلع» و التي تمتد من منتصف فبراير لنهايته. وبعد أن انتهت العاصفة وأشرقت الشمس فرح سعد واحتفل بنجاته وسمى «سعد السعود» الموسم الذي يبدأ من نهاية فبراير حتى نهاية العشرة أيام الأولى من شهر مارس، وقام سعد بعد ذلك وخوفاً من أن تتكرر العاصفة بصناعة معطف له من وبر الناقة، كما أخذ من لحم الناقة المتبقي وسمي «سعد الخبايا»، وهي الفترة الممتدة من مطلع شهر مارس حتى نهايته حيث تكون بداية الإعتدال الربيعي.

 

حين نتأمل حكاياهم حولنا على مد التاريخ والقصص، وكيف يعلق بعضهم حكايته على نجمٍ من النجوم ليلاً، ناثرين همهم وشكواهم في سهرهم الطويل، وبعد انحسار البرد واعتدال الليل، والوحدة التي ربما تخلُق تلك المساحة المريعة للشاعر، حتى يهب اضطراراً للنداء، لمزج ذلك الوجدان الفردي لديه بجموع الناس، ليكون أقرب من منزلة المجهول في «يا صاحبي» إلى «يا فلان»، حتى يصل لاسمه وهو عنوانه المناسب.

 

و في سياق الاسم عنوانًا، أتذكر في نيويورك بالولايات المتحدة، في عام ٢٠١٧، كنا في زيارة لمرسم فنانة مقيمة هناك وذات خبرة طويلة في المجال، بعد الجولة في مرسمها وأعمالها وحكاياها، شعرت بالفضول للاطلاع على أعمال كل منا لخلق ذلك النقاش بين الفنان وما يقدمه من عمل بشكل حاضر وشيق، حين استعرضتُ لوحاتي بعناوينها شارحة كل ما تنطوي عليه من سردية للمعنى بألوانه وشخوصه من اندفاعات المطر وأناشيده، حتى ارتحالات زهرة العرار في عرض الجزيرة وقلبها، و بكامل تعرجات وانعطافات العمل و كائناته، أتذكر أن أحد الاعمال لم يكتمل بعد ولمدة طويلة، وكان بين القائمة المعروضة، لكنه بقي بدون اسم حينها.

 

أتذكر جيداً كيف خلعت نظارتها الطبية، وهي تتنهد بين مديحها وأسئلتها وجملها المتباعدة، أن ما شهدته للتو هو شيء يشبه النظر للشعر حياً بتكامله، ثم سكتت لوهلة وأضافت: «لو أردتِ يوما أن تتركي عملاً دون عنوان فلابد أن يكون متكاملاً بشكل لا نهائي». أنهيت اللوحة الآنف ذكرها فور عودتي، لكن هذا التعليق تركني مفكرة بتلك الإمكانية من أن تقدم عملاً دون عنوان يسمى به ويشار به إليه؛ من احتمالية البناء السردي إلى اصطفاف معناه وحيداً دوناً عن غيره، دون اسم يعنونهُ ويشير له، ليحضر مثل موقف منفرد في صالة الحشود، وحتى يومنا هذا ما زلت في انتظار ذلك النجم المقبل نحوي لينجو من رحلة دون عنوان.

 *فنانة وكاتبة سعودية من الظهران.

*دق العود: أي نحيلٍ كالعود

اقرأ المزيد

لماذا أسافر لإيطاليا سنوياً؟

عدت من صقلية بعد قضاء إجازة قصيرة، عدت محملة بزيت الزيتون، والزيتون الأخضر، ومعجون الطماطم الصقلي، وجبنة الموزوريلا، والمعكرونة المصنوعة منزلياً، نثرتها على طاولة المطبخ بفرح طفولي، ستفوح الدار في الأيام القادمة برائحة الطماطم والريحان...

اقرأ المزيد

النقد السينمائي فيما رواه
عبد القاهر الجرجاني!

اعلم رحمك الله، أن الصورة لا تفيد حتى تؤلَّف ضربًا خاصًا من التأليف، ويعمد بها إلى وجه من...

اقرأ المزيد

زاوية غير مرئية

بكي بمجرد حمله من على الأرض، تعيده والدته على المفرش فيهدأ تمامًا، على العكس من كل أولادها، هذا الولد مختلف. ينام متشبثًا ببطانيته، لا يتركها أبدًا، تحول لونها من الأبيض إلى البني. يستيقظ من...

اقرأ المزيد