في مدينة البط شارع رئيس واحد، حيث السيارات الملونة لا عدّ لها، وحيث تقع الخزينة الذهبية التي يحمل صاحبها اسماً مختلفاً في كل لغة من لغات الأرض، وحيث تتفرع منه الشوارع الأصغر: تلك التي تحوي دكاكين ومطاعم ويسمى الواحد منها: سوق، والأخرى التي تحوي بيوتاً وبنايات شقق متوسطة الطول، وتسمى دائماً: طرقات. وفي مدينة البط يقين واحد، ودافع واحد للشر المطلق تحمله عصابة واحدة أطلق عليها المترجمون الأوائل: القناع الأسود، وأمل مبهم وحيد بحسن العاقبة لا تخطئه عين ترى عبر نوافذ البيوت أو في زوايا الطرقات، ويعيش سكانها دائماً على ما تنتجه مدينتهم من مهارات الجدل، والولع بالخلافات اللغوية، وتشتت الانتباه المزمن، والبساطة المخلّة إنما الواقعية أمام متطلبات الحياة، والحلم اليومي بثروة صاحب الخزينة الذهبية التي تحجب الشمس مرتين كل يوم.

وطقس مدينة البط نهاري غالباً، تحدث الأشياء تحت ضوء شمس كاشف إنما ليس مؤذياً، ومرة أو مرتين ساد زمهرير قارس اصطكت منه أسنان الرجال والنساء، وازرقّ الأطفال تحت الأغطية، وفي مرات نادرة رأينا الليل السرمدي الذي يوحي بأكثر الأفكار رعباً، ويلهم بأحط الخساسات المنظمة في عقول عصابة القناع الأسود، ولا تلبث أوقات الرعب أن تنقشع، بفعل التفاؤل المزمن والاستخدام الجيد للنصائح، إلى طقسنا الواحد والوحيد الذي نعرف: المشمسُ الذي يُخرِج الأطفال إلى مدارسهم والآباء والأمهات من أسرتهم، والأصيل المُسالم ذو النسيم الذي تتفتح أمامه الياقات، وينمو معه أجود أنواع الكسل.

لقد عشت في مدينة البط أيامًا لا أستطيع عدها، بين أعوام ١٩٨٦ وحتى ١٩٩٢، لم يزعجها شيء سوى الواقع المدمر للروح لما يسمى بالمدرسة الابتدائية، وطوفان المطبوعات الإخبارية والسياسية الذي احتل منزلنا إبان الغزو العراقي للكويت، وضيق ذات اليد أحياناً. بدون ذلك كانت مجلات الكومِكس الرخيصة الملونة تلك تملأ البيت وتكفل لي رحلة خيال مخدرة للحواس، تجتذب فقط ذوو الاستعداد الفطري المبكر لتسمية الأشياء بأسمائها المجردة، والميل لاختزال كثير من المعاني في واحد مجرد لا يخلو من طرافة، إن أشهر مقهى في مدينة البط هو: المقهى. والكاتب المشهور الذي يعيش بين ظهرانيها اسمه: كاتب، أو كتّوب (نسيت)، وبالمثل فإن المحاسب الأشهر الذي يتولى حسابات الثري البخيل صاحب الخزانة الذهبية اسمهُ: حسوب، والعالم العبقري هو عبقرينو، ومفتش الشرطة الحاذق اسمه: مهارة. من ثم لا تحتاج مدينة واحدة إلى أكثر من عالم عبقري واحد، وعصابة واحدة، ومحاسب وكاتب وطباخ وجهاز تلفزيون وكنبة واحدة؛ اسمها: الكنبة. طبعاً.

لقد عشت في مدينة البط أياماً لا أنكر أنها أصابت مخيلتي بالضرر اللذيذ، وبالانحياز اللاشعوري للاختزال الذي آمنت مبكراً أنه من طبيعة الأشياء، كم خرجت من جدالات لا تحصى بلا شيء سوى بالانتشاء الذي يشبه السطور الأخيرة أو لوحة المربع الأخير في كوميكس مدينة البط. وكم خضت من غمار لأكثر من حياة بمجرد الإيمان المطلق بحسن العاقبة والانتصارات المدوية للمخيلة، خاف أبي مرة، وقد انكببت على كتاب كوميكس طوال نهاية أسبوع كاملة، على ما أسماه “ملكة المنطق” لدي، ذلك أنني قد لا أستطيع أبداً تخيل حديث دون صورته المرسومة في صندوقها المحكم كما في القصة المصورة، أو أنني لن أنفك دائرًا في دوامة مستمرة بفعل القصص المتسلسلة، دون أن أستطيع أبدًا إكمال قصة فضلاً عن بدايتها بشكل صحيح، فيما خافت أمي من فكرة قد أكون أوحيتها لها دون قصد، فإذا كان لي أن أعيش في مدينة البط، الكائنة في كتب الكوميكس، وعاش أخي الأصغر في مدينة قوثام، وقد كان أكثر جرأة ومغامرة، فإن الناس، وإن بدوا أصحاء سعداء، لا يعودون مطلقاً عما تخيلوه صغاراً.

وكان كل منهما محقاً بطريقة ما.

***

شمس ذهبية مرسومة بعناية، حادة الحواف، لها شعاع أبيض أجاد الرسام جعله موحيًا بعنفوان واضح، وجعل للوحة صندوقاً احتل ثلثي الصفحة، وعنواناً كتب فيه: «يوم مشرق في مدينة البط، والحروب تحدث في الأيام المشرقة». في اللوحة برج الخزينة الشهير، الذي يبدو فيه شعار الدولار الأمريكي الهائل لامعاً بشدة ومتحدياً سافراً، فيما تتناثر أسفل اللوحة سيارات وموظفون يحيون بعضهم البعض، وسيدة متأنقة تتجه لكابينة هاتف، واستقرار واحد يتقاسمه الجميع، وألوان متعددة غنية التباين. في الثلث المتبقي من الصفحة لوحة أخرى بالأبيض والأسود في صندوق مستقل، كناية ربما عن الشر، أو عن الجانب المظلم من الأفكار، يتمطى فيها رئيس عصابة بدين على كرسي دوار، فيما يتكوم أمامه ثلاثة من أفراد عصابة لاستقبال غضب الزعيم الذي يتشكل واضحًا في ملامحه، لم يكتب الرسام كلمة مما دار في هذا الاجتماع، بل وضع بدلاً عنواناً تأسيسياً: «في هذه الأثناء، تتشكل خطة في شمشونيا». وشمشونيا ولاية خيالية، أو جزيرة. أو قارة هائلة من الشر الذي لا يمكن اتقاؤه، تصورها القراء كل مرة بشكل مختلف بما فهموه من كل قصة احتاجت شريراً أو اثنين فجعلتهم يقيمون في ذلك المكان الذي يلد شروراً جديدة كل يوم. ربما نتج من ذات المخيلة التي تمد الكتّاب بالأماكن الخيالية المظلمة، التي يُطلق عليها رصاص التعبئة العامة كلما تناولت قصة جديدة نذيراً ما، أو زلزالاً، أو تحدياً يبدو بلا غد.

نسيت من القصة ما سوى صفحتها الأولى، لكنني في صباح حزين ليوم بذلته بإسراف لذكريات الصبا، قفزت لذهني قصة قد أكون قرأتها فعلاً في مجلدات مدينة البط، أو اخترعتها مخيلتي كاملة بإلهام من صفحة «يوم مشرق في مدينة البط» تلك، تقول القصة إن الأهالي قد استيقظوا، في يوم مشرق مسالم، وبلا مقدمات وجدوا منشوراً ضخما معلقاً في مدينتهم، وقد كتب فيه: «نعلن الحرب عليكم، نحن قوات شمشونيا المسلحة»، ومع أننا نعرف أن لا خصوم سياسيين لمدينة البط، ولا عداوات واضحة للأهالي الذين لم يواجهوا حربا في حياتهم، إلا إن سحر الرعب الممزوج بالتحدي الغامض قد ملأ دماءهم فوراً عندما قرؤوا كلمة الحرب في ساحة عامة، ومع أن القلوب قد بلغت الحناجر حتى المساء إلا أنهم قضوا ذلك اليوم في نقاش طويل عن أفضل ما يمكن فعله في الحرب، وماهي الحرب؟ هل هي مجرد الكراهية اليومية لفساد المثل وانحطاط القيم في شمشونيا؟ أم تعني الاشتباك المباشر مع الجنود؟ ومن هم الجنود؟ من الثابت أن بطوط بنفسه كان جندي مارينز لكنه كان يجول العالم متطوعاً ويعود دافع ضرائب معتاد في مدينة البط، لكنه شيء مختلف أن يتجول الجنود في شوارع المدينة العزيزة، بأحذيتهم المدججة بالأربطة التي ستلوث الأرصفة حتماً. وقد يحطمون لافتة محل هنا أو كابينة هاتف هناك. كان للنقاش أن يستحيل جحيماً من الأسئلة اللانهائية لولا أن تركه «عبقرينو» فجأة إلى مكتبه، عكف على أفكاره ورسوماته إلى آخر هزيع من الليل، ثم خرج إلى الحشد الذي لا زال مكتظاً في نقاشه المثالي، مر بينهم وفي كل خطوة كان يتحول من العالم العبقري غريب الأطوار إلى القائد الحكيم، ثم إنه رفع رسماً في يده مليئاً بالكتابات التوضيحية، قال: «استعدوا لرجال يرتدون هكذا، ويطلقون سهاماً غير مرئية»، وساد صمت كئيب بدا أنه لن ينتهي أبداً.

لا أذكر الكتابات التوضيحية، إلا أن الرسم كان صورة رسمها عبقرينو بإلهام من فرسان القلاع في قصص الرعب القوطي، حيث الدرع المعدني الكامل، والخوذة والقناع المصمتين، والقفازات الثقيلة؛ أضاف عليها مسدساً طويل الفوهة غريب الشكل شبيه بالمسدسات ذات كاتم الصوت التي تنتشر في كل أفلام سرقة البنوك. هنا أحتاج عبقرينو، وقد بلغ أسمى درجات الحكمة، إلى شرح رسمهِ للحشود: «إذا ارتدى رجلٌ هذه الدروع تحول إلى جندي، والجندي رجل يحقق الحرب، والحرب تحدث، كما عرفتم اليوم، للمدن، قد تحدث حرب لأكثر من مدينة معاً، وقد تحدث في أعالي البحار وفي الفضاء السحيق، وقد تحدث للجزر. وأما ما يحمله هنا فهو المسدس، لا يجب التعرض لسهام المسدس، ولا فائدة من الهرب أيضاً، فما أعرفه أنها كثيراً ما تطيش بعيداً. ولكن إصابتها قاتلة ونهائية».

قد تكون أول «خطبة ما قبل حرب» في تاريخ المدينة، ندمتُ بعد أن لمستُ الأثر الثقيل لحكايتي في وجوه الأهالي بعد خطبة عبقرينو الكاشفة والمقتضبة، إن ذهول اليأس الكريه ليس كل ما يمكن ملاحظته على الملامح والمعنويات؛ ساد وجوم قاتل، وبدأ الوقت بالزحف المرعب عندما أخذت الأسئلة تتكون مثل سحابة رمادية فوق الجموع: «هل سنرتدي زي الجنود؟»، «ومن أين لنا بالسهام غير المرئية؟»، «هل علينا أن نعلق لافتة مماثلة في شمشمونيا؟»، عندها انبرى مفتش الشرطة للحديث، وقال إنه قرأ عن الحرب مراراً، بل وتخيلها في جولاته الليلية في أرجاء مدينة البط الوادعة المسالمة، وفي كل مرة كان الربيع يتبدل أو تمرّ ليلة هادئة على مكتب الشرطة دون بلاغات عنف، كان يجد إن الحرب لو حدثت فذلك لأن عدواً شريراً ما سيسعى إلى انتزاع أثمن ما اخترعه وأجاده أهالي مدينة البط عبر تاريخهم: البطء والملل.

وقد تكون أيضاً اللحظة الوطنية الأشهر في تاريخ المدينة، إذ نظر الناس إلى بعضهم البعض وقد آمنوا بعمق الاكتشاف المفاجئ لما يجمعهم سوية، لقد تذكروا التمطي الطويل حتى السابعة صباحاً، ورتابة الشارع الرئيس، ونعاس حارس الخزينة، بل وأعادوا للملل براعة الأعمال الفنية الرفيعة التي يزخر بها متحف المدينة الوطني، ومخترعات عبقرينو في معرضه السنوي الذي يقام مرة كل عامين مؤقتاً، ووجدوا أن السهام غير المرئية لا يمكن أن تصيب من هو بالغ التأني بطبعه، بل لا بد أن الغزاة سيصيبهم سحر الملل البارد عند وصولهم لمدينة البط، وينقلبون على شمشونيا كي يلقوا دروعهم جانباً ويفتحوا الياقات أمام نسائم أطول أصيل في العالم.

لا يمكن لأي قصة، فيما انتهى إلينا، أن تجد مسرحاً لها أفضل من التاريخ المسالم والمناخ الواحد الوحيد لمدينة البط، يلقى الجنود أسلحتهم، وتنهي الحروب، ويتثاءب مفتش الشرطة وقدماه معقودتان على مكتبه، ويتعلم الأطفال في يوم مدرسي طويل عن الضرر البالغ للتأويل وتعقيد المعنى، وتصدر الصحيفة بعنوان مختصر عن الحرب التي انتهت تواً: «أليس يوماً غريباً؟» فوق إعلان للطباخ «أكول» الذي اختار اليوم الجديد لنشر دعاية عن البيتزا التي يقدمها مطعمه، لكن لغياب التنافس اللازم للدعاية، والمعاني المركبة التي تخاطب السريرة ذات الشراهة، يأتي الإعلان مقتضباً ومباشراً، فوق صورة لبيتزا مكتنزة بما لذ وطاب: «أنتم تحبون الجبن».

***

ولا بد أنني، وقد قارب عمري الأربعين، قد «انثنيت على كبدي» شوقاً لخيالات الطفولة، كما يقول تعبير الشاعر العربي، فتأمُّل الواقع السياسي والاقتصادي لمدينة خيالية ليس مما ينشغل به الناس عادة، إلا لو كانوا تحقيقاً مجرداً لفكرة أن لا أحد يعود مما تخيله صغيراً. أسوق المبررات دائماً لتحوير قصة أعرفها أو اثنتين، فأجد جذوراً خفية لتلك القصص في ثنايا كل انهماكات الصبا على قصص الأبطال الخارقين، والبط المتكلم، والفرسان ذوو الإرادة النقية، وأكاذيب الصعاليك، وصولاً إلى سحرة الخاتم، وخطباء الحرب؛ ولم نجد، أنا وكل من سبقني من مؤرخي مدينة البط، ولم نروِ قصة واحدة ذات بداية ثابتة ونهاية حاسمة، إنما هي قصة واحدة كلية عن الإيمان والأمل والحب والنهم الجارف، وللقصص الصغيرة أن تتناسل منها عندما تنفرج الأسارير أمام نسمة خفيفة، أو عندما يطول الأصيل على غير هدى. ثم تزدهر، وتوقد بها المسرات، وتُعقد بها الصداقات، قبل أن تتحول إلى منطق صلب ينتج حقائق ومشاعر تذهل أقسى عقول العالم، وحتى إن بدت خالية من المنطق، كما حذر أبي، أو ظلت تروى على طاولة العشاء حتى مشارف الأربعين، كما نبهت أمي، فإن خلودها المتوقع رهن بأكبر محفز ومخدر، معاً، للمخيلة الإنسانية، وإنني، ومن سبقني من مؤرخي مدينة البط، نرى جميعاً أنه الملل.

 

 

هامش:

  • في العام 2017، وبمناسبة مرور أكثر من خمسين عاماً على صدور مجلة Aku Ankka، النسخة الفنلندية من مجلة Donald DuckK، أقام متحف أتينيوم الفني، التابع لغاليري فنلندا الوطني، معرضاً استعادياً تخيلياً، تخيل فيه فنانون ما يمكن أن يكون التراث الفني لمدينة البط، تشكل المجلة مصدراً مهماً للثقافة الشعبية في فنلندا لشريحة عمرية واسعة، كما أن الفنون الكلاسيكية لا تزال تشكل عنصر الإلهام الرئيس للفنلنديين، والمشهد الفني فيها.

 

للاستزادة:

اقرأ المزيد

الحنين؛ بين الحرف والموقف

كلمة أُخرى، يصعب تفسيرها، تضاف لقاموس اللامعنى وتكون غصنًا لشجرته، وكغيرها مفردة نادرة، تُفسر بالذكرى وجمع الذكريات، تفسر بالموقف الصادر اللاإرادي...

اقرأ المزيد

بــــلكونة، وفــــي روايــــة شـــــرفة

الجزء الناتئ من أحد الأدوار العلوية في المنزل ليطل على الشارع يسميه البعض بلكون أو بلكونة وتُعرّفه قواميس اللغة بـ «الشرفة»؛ نعرفه في مصر بأحاديث الجارات والشتائم المتبادلة بين معلم القهوة في الشارع وبين سيدة...

اقرأ المزيد

سحر الجرأة الكامن

مغامرة أم جرأة؟ لا أعرف الشخص الذي ترجم مصطلح venture capital إلى “الاستثمار الجريء”. كان بإمكانه اختيار “المغامر”، ولكنه اختار “الجريء”. ولذا أنا ممتن له.    venture capital تعني الاستثمار الذي يُضخ في الشركات الناشئة،...

اقرأ المزيد