من بداهة القول أن نعدّ مفهوم «الفنان» حديثًا في نشأته، لكن الذي يغيب عنّا عادةً، أن هذا المفهوم كان تتويجًا لتكريس صورة الفنان بشخص منعزل في صومعته التأملية متعاليًًا عن «عامة» الناس وحيواتهم اليومية. إن السرد وكل الأشكال الفنية الأخرى، لم تكن في بداياته البشرية إلا جزءًا من أدوار وحِرَف لم تمارس بانفصال، لذلك لم نستغرب أن نرى «السارد» في قبائل الصيّادين، أثناء العصور البدائية، مُطبِّبًا يقدّم العلاجات بالوصفات النباتية وأحيانا بالكلمات، ولا أن نرى النحّات في عصور متأخرة حِرَفِيًا يصنع المطارق والفؤوس، إذ كانت كل الفنون جزء من سياق له غايته الحِرفيّة، ولم تكن سياقًا عائمًا أو مقدساً قائمًا بذاته.

ما يُعجبني في بودكاست «الأحمال الثقيلة»، أو: « Heavyweight» هو أنه يعيد الفنّان إلى جذوره الأصلية، البدائية بعبارة أخرى، مقدمًا حِرفة عِلاجية واضحة المعالم. أتذكّر المرة الأولى التي عرفت فيها عنه من صديقي مشاري الحمود. كان يُصارع لشرح الفكرة، ولم يجد طريقة أفضل من سماع جزء من الحلقة ونحن نتجوّل في شوارع الرياض بسيّارته الجديدة، بعدها بأسبوعين عدت له قائلاً: «خلّصت كل الحلقات الأربعين. عندك شيء ثاني زيّه؟» لم يفدني بأي اقتراح من نفس الصنف، غير أنه استعمل انتهائي السريع أمام أصدقائنا كدليل على فضاوتي السافرة. في سياق الفنان المُعالج، يحاول مقدم البودكاست «جوناثان قولدستين» مساعدة رجل على إيجاد من دهسه بسيّارته ليشكره ويخبره بأنه غيّر حياته، وفي حلقة أخرى يساعد صديقه على إثبات أنّه كسر أحد ذراعيه في طفولته، لأن عائلة ذلك الصديق تنكر ذلك تماماً وتتهمه بالتخيل والتوهم العميق.

استعمال التحقيق الصحفي كشكل فاحص وتأمّلي لتفاصيل المرء الدقيقة، في الذاكرة، وفي صدف الحياة، وفي النفس، وقبل كل هذا، في إزاحة الأحمال الثقيلة، يرغمنا أن نتعامل معه كفنّان وليس كصحفي، رغم أن المنطقة التي كرَّس «قولدستين» فنّه فيها، خطرة وصعبة، فقد تنجرف إلى ما يشبه «تلفزيون الواقع»، لكن في صُلب الفكرة التي يقدّمها مضاد يمنع هذا الانجراف. هذا المضاد هو الكتابة، وكم هي عميقة وفنانة هذه الكتابة: مستويات من الأساليب والحيل الفنّية المحبوكة التي أتقنها بعد تجريب الكتابة الخيالية في بودكاست «وايرتاب» الساخر، حتّى تشعر أن هناك مهنتين لـ «قولدستين»، الأولى هي «دِبرة» ينجز لك أصعب المهمات، مثل الإصلاح بين عمّك ووالدك، أو استعادة صندوق التسجيلات الذي استعاره أحدهم وجحدك بعدها، والأخرى هي البودكاست كمُنتج نهائي يأتي كجزء فائض من المهنة الأولى، وشيء يخصّ «قولدستين» وحده، يفعله على رواق، وهو فعلًا كذلك، بعض الحلقات التحقيق فيها يمتد لسنة وسنتين.

وبالعادة غالبيّة الحلقات تبدأ بمكالمة سريعة مع صديقته «جاكي»، لا تتعلق بقصّة الحلقة، حديث جانبي عابر ومفاجئ، لكنّه محوري، لأنّه يقول لك كمستمع: مرحباً بك في عالم «قولدستين» الشخصي، ثمّ هناك المشاكل التي تبدو مستغلقة على أصحابها، مما يجعل اتفاق ضمنياً غير معلن، أنّ التوثيق، أو الصناعة الوثائقية في هذا البودكاست، هو ثمنٌ هامشي سيتلقاه «قولدستين» مقابل الحلول التي يسعى لها وينجح دائماً في تقديمها. يدعمه في ذلك أن شكل البودكاست التسجيلي، الصوتي، يحافظ على مساحة من الحميمية والتجريب الواقعي، الذي يعطي الحكاية القدر الكافي من التوثيق الخالي من الاصطناع، بعكس الكاميرا.

يستكشف «قولدستين» احتمالات جديدة للفنان، من الممكن أن يقال الوصف هكذا كعرض تقديمي، أو بطاقة وصفية لإرشادات التلقي الخاصة بهذا العمل، لكن ما يحدثه عبر حلقات البودكاست، بأدوات كالكتابة، وكشف ما تعنيه رواية قصة ما لأصحاب تلك القصص، هو تجاهل جريء ومتعمد لأطر معروفة، والانطلاق بدراية وتهور نحو إطار فردي ومبتكر يعد باحتمالات جديدة لما يمكن أن ينجح الفنان في نحته وعلاجه، يقول «قولدستين» متواضعًا: «أنا لست معالجًا نفسيًّا، أنا مجرّد شخص عادي، يحاول خلق المساحة للآخرين ليتعاملوا مع ماضيهم، لكننا استعرنا الفكرة من العلاج النفسي، وأخذناها إلى خارج العيادة، لتصبح مغامرة في العالم الحقيقي».

1 أستعمل الفنّان بإطلاقه، سواءً في الفنون أو الآداب
2 الدراسات الأنثروبولوجية تدعم أن القَصَ والشعر بدأت كشكل واحد بدائي ثم انفصلت مع الزمن
3 يمكنكم الاستماع إلى بودكاست «Heavyweight» هنا

اقرأ المزيد

لماذا أسافر لإيطاليا سنوياً؟

عدت من صقلية بعد قضاء إجازة قصيرة، عدت محملة بزيت الزيتون، والزيتون الأخضر، ومعجون الطماطم الصقلي، وجبنة الموزوريلا، والمعكرونة المصنوعة منزلياً، نثرتها على طاولة المطبخ بفرح طفولي، ستفوح الدار في الأيام القادمة برائحة الطماطم والريحان...

اقرأ المزيد

كيف تستعمل جدتي الأساطير؟

تستخدم الأساطير على مر العصور لنقل القيم والمعتقدات لدى ثقافة معينة، فهي متعة كبيرة في أي اجتماع، ومحل نقاش دائم، ولا ينقطع...

اقرأ المزيد

التفاصيل التي تصنعنا

متجر الأشمغة يفيض بالأمواج الحمراء التي تتسرب إلى طرقات السوق، لم نعرف بائع أشمغة واحد ينادي ترغيباً في بضاعته، إذ أن متجره يذكرنا بآباء على مد النظر يصطفون لصلاة العيد أو يتموضعون ...

اقرأ المزيد