شيئان أو ثلاثة يفتقدهما
المخرج السعودي
الباب: أفكار
رشيد الحميدي
لا تخلوا جميع محادثاتي مع الأصدقاء السينمائيين عن طرح سؤال: ما الذي يفتقده المخرج السعودي لِكيْ يتميز ويصنع بصمة سينمائية وأفلامًا جديرة بالمديح النقدي، ويكاد يكون هذا السؤال مطروحًا في جميع المحافل السينمائية محليًا، بل إن ملتقى النقد السينمائي في نسخته الأولى كانت أحد أهدافه تقديم نقد سينمائي يساعد على تطوير صناعة السينما محليًا. ومع صدور كُل فيلم سعودي، لا يغيب عن موقع إكس (تويتر سابقًا) ثريدات المتابعين التي تحلل مهارات صانع الفيلم. لست بصدد تقديم نظرة نقدية لنتائج أعمال المخرجين السعوديين ولا أعتزم حتى ذكر أسماء بعينها، كي أتجنب الخوض في دوّامة الصراعات الشخصية أو الوقوع في محظور أن من ينتقد المخرجين السعوديين سيتم إقصاءه من الفرص.
سأقوم هنا بطرح مجموعة من السمات والصفات التي – بوجهة نظري – يفتقدها كثير من صناع الأفلام السعوديين، وهذه النقاط ليست بالضرورة منطبقة على الجميع، ولكن كل سمة سأطرحها هنا يفتقدها بطريقة أو بأخرى مجموعة من المخرجين النشطين بالساحة. وأنا هنا لست في موقف يتطلب مني شرح العقبات والظروف التي قد يواجهها المخرج، لأن القارئ والمطّلع على تاريخ السينما يدرك أن الكثير من الأفلام الناجحة صُنعت بظروف صعبة جدًا من الناحية الإنتاجية والمادية والمجال لا يتسع لذكرها.
إدارة الممثلين:
دون شك أن التمثيل يُعد أحد العناصر الأساسية في السينما الروائية، حيث إن الممثل سيضطر لتقمص شخصية غير الشخصية الحقيقية له، وهذه المهمة ليست بالسهلة بالنظر إلى الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات. دون الخوض في جانب الكتابة الإبداعية للشخصيات، يبدو جليًا للمشاهد أن المخرج السعودي في الغالب يفتقد إلى المهارة العالية في إدارة ممثليه بطريقه تجعلهم يُخرجون أفضل ما لديهم من قدرات. فالطريقة التي يستلقي فيها الممثل، ويتحرك من زاوية إلى أخرى، والإيماءات الجسديّة، ونوبات الغضب، ولحظة إنهيار الشخصية، وكيف يتكلم وينطق ويتحاور مع الآخر، كل هذه العملية الديناميكية والمدروسة لا بد للمخرج أن يكون على وعي كبير حولها، يرسم كل تفاصيلها في مخيلته قبل أن يضعها على الورق أو يلقي تعليماتها على ممثليه، وإن الإخلال بهذه التفاصيل بالمبالغة فيها أو بالتكاسل عنها توسّع الفجوة بين عالم الفيلم والمشاهد.
قد نعجب بأفلام لا تمتلك نصًا جيدًا أو إخراجًا رائعًا لكن من الصعب أن نُعجب بأفلام لا تمتلك ممثلين أتقنوا أدوارهم، وأنا هنا أزيح ممثلي روبير بريسون من المعادلة لظروف كثيرة لا تنطبق على سياق مقالنا هذا. إن الممثل المبدع قادر على حمل الفيلم إلى منطقة جديدة، وللحصول على نتيجة كهذه، يجب على المخرج أن يكون حذراً منذ اللحظة التي يختار بها ممثليه إلى مدى وعي الممثل بالشخصية المؤداة، ولا يمكن أن نغفل عن جوانب تتعلق بالأبعاد الاجتماعية، كالانتماءات المناطقية، وإتقان لهجات وعادات وتقاليد مجتمع الشخصية. كل هذه التفاصيل تمتلك أهمية عالية لأننا في نهاية المطاف مجتمع مترابط اجتماعيًا ولدينا تفاصيل دقيقة تميّز كل منطقة عن الأخرى بطريقة معقدة، تتطلب لمن يعيش في معزل عن الحياة الاجتماعية أن يبذل جهداً مضاعفاً بدراسة كل هذه الجوانب للإخلاص في تفاصيل فيلمه.
ولا يجب أن أغفل عن أهم عوامل الضعف بنظري في عملية إدارة الممثلين وهي إدارة الممثلين الفرعيين أو «الكومبارس». يمكن لك عزيزي القارئ أن تتوقف الآن وتعيد مشهدًا عشوائيًا لأحد الأفلام التي يوجد بها ممثلين «كومبارس» وأكاد أجزم أنه مع نهاية المشهد ستجد العديد من الملاحظات على إدارة الممثلين إما من إخلال الاداء أو الركاكة في اللهجة أو حتى طريقة التفاعل مع المشهد بشكل عام، مما يقودني للتساؤل كل مرة، ما الذي يدفع المخرج بأن يعلن عن إنتهاء تصوير هذا المشهد بالرغم من كل هذه الهفوات؟ كما أسلفت إنه لا يغفلنا مشقة إتقان هذه التفاصيل وتجاوز عقبات الإنتاج، ولهذا أستحضر مقولة أندري تاركوفسكي «الفنان موجود لأن العالم ليس مثاليًا. سيكون الفن عديم الفائدة لو كان العالم مثاليًا».
اللغة السينمائية:
مع تنوع وسائل الصناعة المرئية، تأتي جزئية اللغة السينمائية الأكثر ضبابية، ويدفعنا هذا أن نطرح سؤالاً جديراً بالبحث عن ماهية اللغة السينمائية؟ وللإجابة على مثل هذا السؤال الشائك، يجب أن ننظر إلى الأدوات والقواعد التي شكّلت السينما كاللحظة التي قام فيها ديفيد غريفيث بإستخدام – Cross cutting أو القطع التقاطعي – لأول مرة أو حتى تقديم مدرسة موسكو لنظرية المونتاج كوسيلة لحكاية القصة. السينما لغة صُوَريّة في مقامها الأول، وأدوات كالضوء والظل والشخوص والمكان والجمادات هي جزء من عالم الفيلم، وعلى المخرج أن يكون مدركًا وواعيًا بكل ما يحمل كادر فيلمه من عناصر. الإلمام بكل هذه الأدوات يجعل من المخرج أشبه بمايسترو الأوركسترا، القادر من خلالها على خلق التناغم بين الشخصيات وعوالمها.
في الأصل، الأفلام تُعرض في صالات السينما لجمهور قرر أن يترك منزله ويقطع تذكرة ليجلس طوال فترة الفيلم في صالة مغلقة. هذه الظروف المحيطة بالتجربة تجعل من المُشاهد أكثر التزامًا في طقوس الفُرجة السينمائية وهذا بالضرورة يعطي للمخرج مساحة لا يحصل عليها في وسائل أخرى كالتلفاز والمنصات الإلكترونية. ولهذا، نجد أن السينما، بخلاف الوسائل الأخرى، تمتلك إرثًا طويلًا من التحولات التي طرأت عليها من خلال تشكيل الحركات السينمائية والمدارس التي تنوعت أساليبها. إنها تلك الملَكة التي تميّز المخرج السينمائي باللعب على أدواته دون أن يخسر حضوره.
إذا أخذنا التحرير في الأفلام السعودية نجد أن كثيراً من الافلام تفتقد إلى عملية التحرير السينمائية وأعني هنا جوانب تتعلق في إيقاع القطْع من لقطة إلى أخرى أو علاقة الصور السينمائية بعضها ببعض، أو حتى دخول الموسيقى التصويرية وخروجها. على سبيل المثال لا الحصر يندر أن ترى مخرجًا سعوديًا يعطي المكان والبيئة المصورة حقها من الفيلم، وأنا لا أعني هنا اللقطة التأسيسية المعتادة التي تراها حتى في إعلانات المطاعم والحلويات. يعوز المخرج السعودي المهارة المطلوبة لأن يجعل من المكان المُصور كينونة وجزءً لا يتجزأ من شخصياته، ولخلق مثل هذا الشعور يتطلب الأمر لأن يترك المخرج كاميرته تجوب زوايا المكان، وأن نرى الشخصية تتفاعل مع مكانها بمعزل عن الأحداث الكبرى، خلاف الوسائل الأخرى كالمسلسلات واليوتيوب التي تميل أكثر إلى تصوير ما هو مهم لمسار الأحداث فقط. وهذا الأمر مرتبط إلى حد كبير بإيقاع الأفلام السعودية، التي تميل أكثر لأن تكون أشبه بإيقاع المسلسلات والإعلانات وأفلام اليوتيوب القصيرة، والتي دائمًا ما تكون ذات إيقاع سريع يعتمد إلى حد كبير على سرد أكبر قدر ممكن من الأحداث التي يظن المخرج أنها ذات أهمية عالية على حساب بناء علاقة بين المشاهدين وممثليه.
الثقافة:
حسنًا، بعد كل هذا الاستعراض، سأختتم بأكثر الاشياء التي أرى أن صُنّاعنا السينمائيين الكِرام يفتقرون إليها. ولكي أكون أكثر وضوحًا، أنا أعني هنا المخرجين الجادين الذين يرغبون بصنع أفلام تستدعي حضور ذهنية المشاهد وتحليله، لا تلك الأفلام التي تستهدف جيبه. الخلفية الثقافية مطلب رئيس لكل فرد يمتلك الرغبة بصنع منتج سينمائي كان، أو فكري. ولأن حقلنا في هذا المقال هي السينما، فالمخرج بحاجة إلى أن يكون مُلماً بالمدارس السينمائية، والأساليب المختلفة والسياقات التي خاضتها السينما بمختلف أشكالها، وبالفعل أنا لا أتحدث فقط عن السينما الأمريكية التي تمتلك ظروفاً إنتاجية وسياسية بعيده كل البعد عن ظروفنا المحلية.
الحديث عن الفقر الثقافي الذي يعانيه المخرج السعودي يمتلك حساسية عالية بالنظر إلى وجود صداقات داخل الوسط السينمائي لأغلب الكُتّاب، ومن ضمنهم أنا. ولا أريد أن أكون مبالغًا بقولي إن هذا الأمر أشبه بالفيل الذي بالغرفة، لكن يمكن لأي شخص ذي خلفية ثقافية متنوعة في السينما يرى أن المخرجين السعوديين محدودو الثقافة السينمائية والأدبية. ولمثل هذا النقص عيوب كثيرة من ضمنها عدم الوعي بالتنوع المدرسي التي مرت فيه السينمات العالمية، كمثل نشوء الواقعية الإيطالية التي كانت رغبة مُلحّة شَعَر فيها المخرج الإيطالي آنذاك لتصوير حياة الشعب بعد سقوط موسوليني، أو حتى أفلام معاداة الاستعمار التي ظهرت في بلدان عديدة في أفريقيا لتصوير الحالة التي عاشها المجتمع الأفريقي بعد خروج المستعمر الأوروبي، وأخيرًا وليس آخرًا الموجة التايوانية الجديدة التي قامت بتصوير الحياة اليومية للفرد العادي تحت الظروف السياسية والإقتصادية الصعبة للمجتمع التايواني آنذاك. كل هذه الحركات المذكورة قامت تحت ظروف إنتاجية صعبة وبأفلام ذات ميزانيات قليلة ولكن تميزت بتقديم أسلوب سينمائي متفرد، جعلها تنجح على مستويات عديدة وحيّة وسط المجتمعات السينمائية حول العالم.
دون شك أنا لا أرمي هنا إلى أن يصنع المخرجين السعوديين موجات وحركات كالتي ذكرتها أو غيرها، بل إن أغلب الأفلام الناجحة والمتميزة تم تقديرها في مرحلة لاحقة، لكن دراسة مثل هذه النماذج تعطي المخرج بعْدًا أعمقَ حول قدرات الوسيط السينمائي، ويجعل حظوظه أعلى في يتجاوز بعض الظروف الإنتاجية الصعبة، وفي تشكيل لغته الخاصة بعد اكتشاف كل هذا التنوع. ولأننا نعيش في زمن متسارع ومتطور يجعل من الحصول على المعلومة أسهل من شرب كأس الماء، نلوم كثيرًا كسل المخرجين عن اكتشاف مثل هذه المدارس والأساليب وحصر أنفسهم بالسينمات الجماهيرية والمتداولة كالأمريكية والفرنسية، وترك نماذج أخرى ذات شهرة أقل وظروف مقاربة لظروفنا الإنتاجية. وبالختام، على المخرج أن يسأل نفسه قبل أن يدحض انتقادات الجماهير على أفلامه: هل حقًا قمت بواجبك السينمائي؟
ــ ناقد سينمائي، ومقدم شريك لبودكاست ضوء وحركة السينمائي.
اقرأ المزيد
من ذاكرة البيوت
لربع ساعة. لم يخطر ببال أحد أن الدرابزين الخارجي جزء من البيت، وأن طقطقته وضربه تؤذي ويشعر بها البيت كما لو كانت طقطقة لإحدى جدرانه الداخلية. لم يكن رأسها الوحيد الذي علق تلك السنة...
اقرأ المزيدحين رسم كليمت فكرة فرويد
للرسم تاريخ قديم لدى البشر، ابتدأ حتى قبل اختراع الكتابة بستين ألف عام! وقد مر هذا التاريخ بمنعطفات كثيرة، كانت استجابة للظروف التي قد يكون أهمها على الإطلاق، كما يشير الناقد إرنست غومبرتش، مؤلف الكتاب...
اقرأ المزيدسحر الجرأة الكامن
مغامرة أم جرأة؟ لا أعرف الشخص الذي ترجم مصطلح venture capital إلى “الاستثمار الجريء”. كان بإمكانه اختيار “المغامر”، ولكنه اختار “الجريء”. ولذا أنا ممتن له. venture capital تعني الاستثمار الذي يُضخ في الشركات الناشئة،...
اقرأ المزيد